ارتبطت الوظائف المنوطة بعمل الأمن الوطني منذ أمد بعيد بالدور التقليدي الذي انطلق من مفهوم مباشر لطبيعة عملها النوعي في مجال منع ومكافحة الجريمة التقليدية
كما يطلق عليها البعض دون الانطلاق نحو الجريمة بمفهومها المعاصر الذي يختلف كلياً عن الأزمان السحيقة التي ساد فيها ذاك المفهوم، وبسريانه شكلت الوظيفة تقليداً واعتياداً، وصنفت الجريمة بأنها تقليدية نسبة لطبيعة الوظائف التي تتولى منعها ومكافحتها، وهذه الوظائف التقليدية هي لوظيفة الإدارية: سميت بذلك لارتباطها بأعمال الإدارة التي تحركها بموجب قرارات وأوامر وتعليمات يصدرها المشرفون على إدارتها لتتولى بموجبها اتخاذ التدابير التي تمنع أو تحول دون ارتكاب الجريمة، وتعمل على تجفيف منابعها من الأساس، ويمكن تعريفها بوظيفة المنع بوضع الأفكار مقدمة للقيام بإجراءات التنفيذ فيما بعد، منها مجال التخطيط والدراسات الذي يركز على وضع التدابير والمشاورات والتفاهمات الاستباقية قبل الشروع في تفعيلها وتحويلها إلى واقع فعلي عملي، والإعلام والخطاب الديني والقانوني والاجتماعي.. إلخ الذي ينطلق من أدوار أولية قبل ارتكاب الجريمة يعمل على عدم وقوعها بجملة من التدابير كما أشرنا، ويقع ضمن هذا المفهوم إصدار الوثائق الثبوتية كالبطاقات الشخصية وجوازات السفر والتراخيص وكتيبات العائلة وما إليها، وكذلك أعمال الحراسات والدوريات والتفتيش والمراقبة وتسيير دوريات المرور والنجدة باتخاذ كافة تدابير المنع التي يمكن أن يقاس عليها.
الوظيفة الضبطية والقضائية:
سميت بهذا الاسم لارتباطها بضبط الجريمة بعد وقوعها واتخاذ الإجراءات الأمنية الضبطية والقانونية بشأنها، وهي تشمل انتقال مأمور الضبط القضائي إلى مسرح الجريمة فور تلقي البلاغ ومعاينة مكانها وتحرير المبرزات الإجرامية والأدلة إن وجدت والتحفظ على المتهمين وسماع أقوال الشهود، وكل ذلك بموجب فتح محضر لجمع الاستدلالات وتصنيفه جرمياً وإعطائه رقماً وإحالته للنيابة العامة التي تتولى متابعة الإجراءات إلى حين صدور حكم نهائي من المحكمة كجهة قضائية في المسألة موضوع الحكم، وتمضية الجاني للمدة المقررة له في الحكم بمؤسسات الإصلاح والتأهيل حتى تمضية العقوبة والإفراج عنه.. هذه هي المرحلة الطويلة لوظائف عمل الأمن الإداري والضبط القضائي التي تبدأها الأولى قبل ارتكاب الجريمة بالمنع، ثم تواصلها الثانية بعد وقوع الجريمة بالإجراء حتى الانتهاء بالإفراج عن الجاني بتكملة المدة المحكوم بها، هذا ما ساد وباد عن الدور التقليدي لوظائف الشرطة غير أن هذا المفهوم منذ السبعين سنة الأخيرة تطور وتنامى بظهور وظيفة جديدة للشرطة سميت بالوظيفة الاجتماعية.
الوظيفة الاجتماعية:
انطلقت هذه التسمية من طبيعة عمل هذه الوظيفة التي تعتبر المجتمع مجالاً واسعاً لعملها وليس الجريمة التقليدية بمنعها ومكافحتها وفقاً للتدابير والإجراءات التي أشرنا إليها، بل تكون هذه الوظيفة مصاحبة لحراك المجتمع وتطوراته وملاحقة لنقلاته ومستجداته في مجالي المنع والمكافحة معاً لحالة الجريمة ليس المباشرة والتقليدية، لكنها تنسحب على كل ما قد يؤدي إليها، وهي وظيفة (أساسية أولية للمنع، ولاحقة تكميلية للمكافحة) بمعنى أنها ترتبط بمنع الجريمة حين تضع التحوطات التي تحول دون ارتكابها، وتمنع حالة العود إليها باتخاذها لجملة من الإجراءات العملية التنفيذية التي يتم بمقتضاها صيرورة هذه التدابير والأفكار إلى واقع عملي يمكن تنفيذه، وبذلك صارت هذه الوظيفة تشكل عملاً أولياً وفهماً مزدوجاً وتكميلياً متميزاً وصل أقصى درجات التفعيل والمساندة، غطت هذه الوظيفة الاجتماعية بمقتضاه من (60-80 %) من عمل الشرطة إجمالاً حتى صار العمل الاجتماعي يلخص عمل الأمن الوطني، وربما يتفوق عليه بظهور مفهوم الشرطة المجتمعية أو شرطة المجتمع التي تتأسس على الدور الاجتماعي للشرطة، وتبني الأفكار الجديدة الداعمة والمؤيدة له خاصة بعد تنامي الحراك الفاعل الجديد لمؤسسات المجتمع المدني التي صارت تشكل أهمية بالغة في صياغة الرأي العام المعاصر الذي يمكنه إحداث تأثير متعاظم في الفكر السياسي ومصدر اتخاذ القرار، ولا يمكننا حصر الأدوار والمهام التي يمكن للوظيفة الاجتماعية أن تباشرها كما لا تتحدد في مجالات بعينها، فهي باتساع وعمق المجتمع يمكنها أن تكون في الرعاية الاجتماعية اللاحقة (للسجناء والمفرج عنهم) بموجب تدبير عمل مناسب لهم، ومع العاطلين بتأمين مواطن عمل لكسب عيشهم، ومع المظلومين في إنصافهم بالحصول على حقوقهم والأسهام في عودة المفقودين وإجراء المصالحة الوطنية وأعمال التوقيف وحماية البيئة ومنع التصحر وزحف الرمال والتلوث وآفات الجراد ومهام مكافحة جرائم الآداب العامة وتعاطي الخمور والمخدرات والمؤثرات العقلية وحالات السطو وتزويج القاصرات وغلاء المهور وتكاليف الزواج ومكافحة أعمال السحر والشعوذة والأمراض المعدية والسارية وكل ما يؤدي إلى تحقيق السلم الأهلي والوفاق الاجتماعي، وكذلك الاهتمام بالمهرجانات والأيام والأسابيع الوطنية والقومية والدينية بإقامة الاحتفالات والمهرجانات دون أن تغفل الاهتمام بالطفولة والأمومة ودور العجزة والمسنين ونزلاء المؤسسات الإصلاحية وتقديم الهدايا الرمزية، وكذلك تنظيم المصائف والمنتزهات والحدائق العامة والغابات وأعمال الإنقاذ البحري ومراقبة الشواطئ وصالات الأفراح في المناسبات العامة والخاصة .. وغيرها كثير.
أهم ملامح الدور الاجتماعي للشرطة:
ما سبق يتعلق بنطاق المجتمع الخارجي، أما في نطاق المجتمع الداخلي بين أعضاء هيئة الشرطة فقد أوجدت المؤسسات والهياكل التي يمكنها تقديم الخدمة الاجتماعية لهم في شكل إطلاق صندوق للرعاية الاجتماعية للشرطة يمكنه تقديم الإعانات المادية للمعوزين والمحتاجين في الحالات الطارئة والتضامن مع ظروفهم الصحية والاجتماعية وكذلك استحداث (النادي الاجتماعي) بمرافقه وتقسيماته التي تكفل التسوق والترفيه والإقامة والتنزه لأعضاء الشرطة وعائلاتهم في فضاءات فسيحة معشبة تكفل الصحة والترفيه وإقامة المباريات والمهرجانات الاحتفالية كدور مفصلي متقدم يتجاوز الدور التقليدي للشرطة كمؤسسة تعمل فقط وفق مفهوم مكافحة الجريمة.
إن رسالة الأمن في مفهومه الجديد صارت تنطلق نحو تأسيس مفاهيم جديدة ومعاصرة تتبنى المجتمع كعمق إستراتيجي لطبيعة عملها، وبه ومعه يمكنها تحقيق مكاسب وطنية ملموسة تجعل من الشرطة إدارة تنفيذية لأحكام القوانين الداعمة لحقوق الإنسان وتأكيد حرياته الأساسية، وتعمل بإشراك فاعل ومستخدم مع مؤسسات المجتمع المدني وتحت مظلة الدستور على ضمان حماية الحريات العامة وتحقيق الرفاه والتنمية الاجتماعية، وتحولت عن دورها التقليدي الذي جعلها أداة طيعة وأمنية للحاكم أو عصاة للسلطان تطال وتلاحق كل الخارجين عن تسابيح الحاكم بعد أن سخر الشعب وسخر منهم، فقد صارت الشرطة اليوم تنهض بالشأن العام، ويأتي دورها الاجتماعي في أول مقام عند تفعيل هذه المهام .