منذ تمكين اليهود وإنشاء "دولة" لهم في فلسطين بحلول مايو 1948، ثابرت العصابات الصهيونية على إبادة وتقتيل وتهجير أهالي قرى وبلدات فلسطينية على بكرة أبيهم، ومع الأيام أصبح هذا الكيان مشهودا له تاريخيّا باقتراف أشنع الجرائم وأبشعها على الإطلاق في
حق المواطنين العزّل، ولا زال يعمل بشكل موصول وممنهج على إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره في محاولة لتصفية القضية وإجهاض المقاومة بشتّى السّبل.
كيان همجيّ غاشم، سلوكه الممارسات الإجرامية التي يندى لها جبين الإنسانية، لم يتوقف منذ قيامه عن التقتيل والبطش والإغتيال، ناهيك عن جرف ومصادرة أراضي المواطنين وهدم منازلهم لإنشاء على أنقاضها تجمعات لمستوطنين يهود يتم استجلابهم من دول مختلفة في شتى أنحاء العالم لزرعهم في الأراضي الفلسطينية.
ذلك هو دأب الكيان الصهيوني التي عمد، وعبر تاريخه الملطّخ بالدماء، إلى انتهاج أسلوب الإرهاب المنظم واستعمال العنف المفرط في مسعى لترسيخ أقدامه بشتّى الوسائل في فلسطين ككيان غاصب محتلّ. وهكذا فلا تكاد تمر فترة من الزمن من دون أن يقوم جيش الإحتلال بارتكاب مجازر في حق الشعب الفلسطيني أغلبها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
أشهر مجازر جيش الإحتلال.
يمكن بعجالة تلخيص جرائم الإبادة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، في مجمل ما حدث خلال الفترة الواقعة بين حربي (1948- 1967)، بالإضافة إلى مجازر صبرا وشاتيلا، ومرورًا بمجزرة دير ياسين والطنطورة، إلى مذبحة خان يونس وكفر قاسم، ومجزرة الحرم الإبراهيمي ومذبحة مخيم جنين، وغير ذلك..
وليس هذا فحسب بل تمادى جيش الإحتلال، بكل بطش وتجبّر، في ممارسة جرائم الإبادة الجماعية للفلسطينيين ضمن جُملة من الاعتداءات المتتالية نفّذها في قطاع غزة على مدى السنوات (2008- 2009- 2012- 2014 و2021).
مذابح جديدة بغزة.
ردًّا على جرائم الإحتلال المستمرة في قطاع غزّة، كانت المقاومة الفلسطينية قد نفذت في السابع من أكتوبر 2023 عملية طوفان الأقصى، وعلى إثرها قام جيش الإحتلال بشن حرب غير مسبوقة على القطاع، دخلت شهرها الثامن بحلول شهر يونيو الجاري، استشهد وأصيب فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين تحت أنقاض مساكنهم، حيث ارتكبت قوات الإحتلال عديد المجازر في الأحياء المأهولة وفي المخيّمات وداخل المستشفيات والمدارس وسائر المؤسسات.
ميدانيًّا وفي أرجاء غزّة، يتكبّد جيش الإحتلال يوميًّا في هذه الحرب خسائر فادحة ومنقطعة النظير في الأفراد والمعدّات، بما يواجهه من ضربات المقاومة الباسلة التي حطمت كل الأرقام القياسية في الصمود منذ بدء الإحتلال، واستطاعت بوسائلها المتواضعة نسبيًّا الإطاحة بقدرات العدوّ، المُدجّج بأحدث التكنولوجيات الحربية، والمصنّف تقنيًّا ولوجستيًّا كواحد من بين أقوى الجيوش في العالم.
وفي ظل عجزه عن مجابهة فصائل المقاومة وتكتيكاتها وكمائنها، وبفعل ما أصابه من خسائر، ظل العدوّ يحاول تحقيق انتصارات وهمية ابتغاء رد الإعتبار، وكردّة فعل إنتقامية، لم يجد أمامه إلا المدنيين العزل لكي يصبّ عليهم جام غضبه ويتسلّط عليهم تقتيلا وتهجيرًا وتجويعًا وإرهابًا، وكان أغلب شهداء هذا العدوان من الأطفال والنساء والشيوخ.
وليس ذلك غريبًا، فإن الإفراط في القتل والتدمير بلا مبرّر هو سلوك همجيّ وبربريّ معروف في عقيدة الجيش الصهيوني التي تستمدّ تعاليمها من التلمود واليهودية الحاخامية، ويبدو ذلك واضحا حتى في سياق تصريحات كبار المسؤولين الصهاينة التي لا تخلو على الإطلاق من دعوات لممارسة القتل الجماعي للفلسطينين دون استثناء، وقد وصل الأمر بهم إلى حد التّلويح باستخدام السلاح النووي ضد قطاع غزة. وعلى هذا الأساس يبدو واضحًا للجميع أن مقدار الإفراط في قتل المدنيين يُعدّ من معايير تقييم الإنجازات العسكرية لدى العدو الصهيوني. ولذلك فإن الإنتصارات المزعومة التي يحاول أن يتفاخر بها القادة والمسؤولون في دولة الإحتلال أمام الرّأي العام الإسرائيلي، ترتبط في الغالب بممارسة الإبادة الجماعية وقتل المدنيين العزل، ولا سيما في ظل فشل جيشهم في تحقيق الأهداف المُعلنة أو أيّة إنجازات عسكرية تُذكر.
وعلى الرّغم من التضحيات الجسيمة وارتفاع عدد الشهداء، تظل فصائل وسرايا وكتائب المقاومة باقيةً على ثباتها متمسّكةً بزمام المبادرة، وهي تشكل الرقم الصعب في مجريات المواجهة غير المتكافئة، مع العدوّ الذي ما فتئ يتكبّد إلى يومنا هذا، في رفح ومخيم جباليا وحي الزّيتون وبيت حانون وفي سائر المحاور، أكبر الخسائر، حيث تُستهدف وتُدمّر آلياته ومعدّاته القتالية، أمّا ضباطه وجنوده فهم يتساقطون في كل يوم بين قتيل وجريح، ومنهم من وقع أسيرًا في قبضة فصائل المقاومة.
الموقف الدولي الرّسمي
الشّيء من مأتاه لا يُستغرب، فالدول الإستعمارية التي لها تاريخ بغيض حافل بإبادة الشعوب، ولا تتورّع في رعاية الإرهاب المُنظّم، هي في الغالب ذات الدول الداعمة اليوم للكيان الصهيوني والمعروفة بتحالفها الإستراتيجي وولائها له، وهي تردّد دون أي تحفّظ أن "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها"! دول أقلّ ما يمكن أن يقال فيها أنها شريكة بامتياز في الإعتداء الغاشم على شعب فلسطين، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي لم تدّخر جهدًا في تقديم شتى أنواع الدّعم لجيش الإحتلال، حيث لم تتوقّف عن إمداده بأحدث الأسلحة والقنابل والذخائر.. إمعانًا منها في المساعدة على المزيد من إبادة الفلسطينيين والتدمير الواسع للقطاع، لتكريس حالة الإحتلال.
وفيما القانون الدولي تتعطّل أحكامه حالما يتعلق الأمر بـ"إسرائيل" وكذلك حال المواثيق الدولية، فلا يجد المجتمع الدولي ذو المعايير المزدوجة، نفسه إلا عاجزًا على مدى عقود من الزمن، عن الوفاء بالتزاماته الأدبية والأخلاقية في إنصاف شعب شُرّد من وطنه ويرزح تحت نير الإحتلال الغاشم ووطأة الحصار والإبادة الجماعية المتواصلة..
ولقد تبين بالقدر المُتيقّن أن السلم والأمن الدوليين الذي تتبجّح به الأمم المتحدة هو أمر تمييزي يخص الأقوياء، ولا سيما الدول الغربية وصنيعتها دولة الكيان الصهيوني على وجه الخصوص، وإلّا فأين نحن من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص بشكل صريح على "عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة"؟!
موقف الشرفاء والأحرار في العالم.
في الوقت الذي يُدكّ فيه القطاع بالقنابل والمدافع والصواريخ، حيث جموع من أهالي غزة يُقتلون بالحديد والنار، فيما آخرون من أبنائها يتضورون ويموتون جوعًا على خلفية ما يخضع له القطاع من حصار ومحاصرة، ومن ذلك منع أو تقييد وصول الغذاء والدّواء وسائر مستلزمات العيش الأساسية. أمّا في ظل انعدام الدواء فيموت الكثيرون بالمرض وبسبب ما يقوم به جيش الإحتلال من تدمير للمؤسسات الإستشفائية كأحد أساليب الإبادة للسكان.. وفي مقابل كل ذلك تصل تباعًا من أمريكا إلى دولة الإحتلال شحنات متتالية من العتاد الحربي ومختلف أنواع الذّخائر. أمّا من جهة أخرى فتتدفق إمدادات بشتى أنواع السلع والأغذية ومختلف الحاجيات الضرورية إلى الكيان الإسرائيلي؛ تصل بانتظام عن طريق جسر برّي؛ نقطة انطلاقه ومجالات عبوره أراضي دول في المنطقة، يُفترض أن تكون شقيقةً لفلسطين والأجدر بها أن تكون وقفتها إلى جانب الشعب الفلسطيني وليس العكس!
وعلى خلاف ذلك لا أحد ينكر أن هناك قوى مقاومة في دول عربية بالمنطقة، تقف في الجانب المُشرق من التاريخ، وقد بادرت في المساعدة على التّصديّ للعدوّ المشترك، وتتبنّى موقفًا رجوليًّا مشرّفًا داعمًا لفلسطين وهو ما يُحسب لها تاريخيًّا في الشهامة والعزة والكرامة. وعلى غرار تلك المواقف العربية الأصيلة هناك حتّى دول أجنبية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ودول إسلامية اتخذت مواقف سامية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني، بأساليب مختلفة، ومن ذلك أن الكثير من الدول بادرت إلى طرد سفراء دولة الإحتلال من بلادها وسحبت سفراءها.
أمّا على الصعيد الشعبي والرّأي العام وأحرار العالم فقد اجتاحت مظاهرات واحتجاجات شعبية مدنًا في مختلف البلدان تندّد بالعدوان الإسرائيلي وتطالب بإنهاء الإحتلال، كما صدرت العديد من النداءات في العالم بوجوب وقف المذابح في غزة؛ منها ما صدر عن فعاليات المجتمعات المدنية وعن منظمات إنسانية وحقوقية عالمية مختلفة.. مع ودعوات أخرى متواصلة تصبّ في نفس الإطار من سياسيين رفيعي المستوى وشخصيات بارزة في أوروبا وأمريكا وفي أرجاء متفرّقة من العالم، وكلها تنادي بالوقف الفوري لإطلاق النار وإدخال المساعدات إلى غزة.
وفي ظاهرة غير مسبوقة كان العدوان على غزّة والمذابح التي اقترفها جيش الإحتلال فيها قد أشعل حراكا طلابيا عالميا، فانتفاضة طلاب الجامعات الأمريكية وجامعات في أوروبّا تحمل في مضامينها تحوّلًا جديدًا في أذهان الأجيال الصاعدة في تلك الدول، وهو ما سيُلقي في وقت لاحق بظلال إيجابية على صعيد القضية الفلسطينية.
الخـاتمة.
على المستوى الواقعي بات السابع من أكتوبر حدثًا مفصليًّا في التاريخ، وما بعد ذلك اليوم ليس كما قبله. فقد شكلت عملية طوفان الأقصى مناسبة سانحة لإحياء القضية الفلسطينية وتسليط الضوء عليها، حيث باتت هذه القضية تتصدّر نشرات الأخبار العالمية. وفي الأثناء إستيقظ الرأي العام في العالم أكثر من أي وقت مضى، حيث أدرك عامة الناس الوجه القبيح لدولة الإحتلال الصهيوني ولمن يُساندها من الدول والأنظمة الحاكمة التي تمارس النفاق السياسي، وبالتالي أصبح هناك حديث عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وعن الإعتراف بدولة فلسطينية.. أما الوجوه الزائفة في العالم التي تدّعي السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد سقطت من عليها الأقنعة، بعد أن أصبحت المجتمعات واعية بما يكفي لنقض الدعاية الصهيونية وأبواقها التي تصدع بها الدول الإستعمارية المعادية للشعوب.