فكرة القوة البحرية: القوة البحرية أو الإستراتيجية البحرية هي نظرية كان قد طرحها أميرال بحري من الولايات المتحدة، يدعى "ألفرد ثاير ماهان" عاش بين 1840 و1914، واستأثرت نظريته بالكثير من الإهتمام في الأوساط العسكرية على مستوى العالم، وهي تذهب إلى خلاصة مفادها أن الدول صاحبة القوة البحرية الأكبر هي التي ستحظى بالتأثير الأوسع في جميع أرجاء العالم.
أصدر ماهان عدة مؤلفات حول هذه النظرية تناولت على وجه الخصوص مسألة البحار وأهمية السيطرة عليها، وقد قدم ضمن هذه المؤلفات إلى قيادة بلاده جملة من التوصيات مناديا خلالها بوجوب إعطاء أولوية قصوى لتكوين قوة بحرية كبيرة لغرض الهيمنة على البحار، داعيا إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير في سبيل ذلك.. كما أوصى في الأثناء بإنشاء قناة بنما للربط بين المحيطين.
كان لهذه النظرية في ما بعد الأثر البالغ في الدفع باتجاه المزيد من التواجد المكثف للأساطيل الأمريكية في عرض البحار وشتى المحيطات، وبالتالي أفول حقبة استحواذ الأساطيل البريطانية عليها.. وعلى خلفية مبدأ القوة البحرية، ما من أحد أثر بصورة مباشرة وعميقة على الإستراتيجية البحرية في الولايات المتحدة كما فعل ماهان، فهو الذي قدم الأسس التطبيقية التي أسفرت على قيام النهضة الشاملة التي شهدتها البحرية الأمريكية، وكان من أثر ذلك أيضا تحفيز بريطانيا وإصرارها على الإبقاء على الهيمنة البحرية لصالح إمبراطوريتها. كما كان لدور هذه النظرية العامل الشديد التأثير في الدفع باتجاه تطوير البحرية الألمانية، ناهيك عن تأثيرها الواضح في التأسيس إلى الإرتقاء بخصائص الفكر البحري في فرنسا وإيطاليا وروسيا واليابان وحتى لدى الدول الأصغر حجما. وعلى العموم أسفرت هذه الفاعلية على زيادة تنافس الدول البحرية على الأساطيل والأسلحة البحرية بحلول نهاية القرن التاسع عشر.
مشهد من تاريخ البحرية الليبية:
تثبت الملامح البحرية والجغرافية الخاصة بليبيا بوضوح أن هذا البلد هو دولة بحرية بامتياز، وذلك من منطلق امتداد سواحله على البحر الأبيض المتوسط التي يصل طولها إلى 1770 كم. هذه الواجهة البحرية الشاسعة تمثل الإمتداد الحيوي الإستراتيجي لليابسة الليبية المترامية الأطراف والتي تفوق مساحتها المليون وثلاثة أرباع المليون من الكيلومترات المربّعة. وفي المقابل فإن هذه المساحة المتباعدة تشكل بدورها إمتدادا حيويا هائلا للبحر في جهته الجنوبية.
وتأسيسا على هذه الخصائص الجغرافية يظل البحر في ليبيا متميزا بدور جوهري على الصعيد الدفاعي والأمني ويرتبط بشكل وثيق بالمجال السياسي والإقتصادي.. لذا فإن مسألة البحر ينبغي أن تنال من قبل الليبيين المستوى المطلوب من الحرص والعناية. هذا وكما لليبيا جغرافيا بحرية متميزة فإنها أيضا تملك تاريخا بحريا عريقا، من الجدير في مقامنا هذا أن نغوص بعض الشيء في أعماقه لنستذكر إحدى اللمحات من الماضي المجيد للبحرية الليبية التي شكلت مظهرا من مظاهر البلاء الحسن مع مطلع القرن التاسع عشر، وتحديدا في شهر أكتوبر 1803، عندما تمكنت في واقعة غير مسبوقة من الإطاحة باستعلاء الولايات المتحدة حين تجرأت سفينة حربية تابعة لها تدعى "فيلادلفيا" على محاصرة سواحل طرابلس، فما كان مصيرها إلا التعرّض لعملية استدراج تكتيكي من قبل البحارة الليبيين والوقوع في كمين جعلها في متناول المدفعية المنطلقة من القوارب الحربية الطرابلسية، وتعرضت إلى هزيمة نكراء انتهت باستسلامها ووقوع قبطانها وطاقمه ومئات المارينز الأمريكان في الأسر، أما السفينة فقد جرى تدميرها في وقت لاحق من الواقعة.
السلاح البحري الليبي وآفاق الإرتقاء به:
إذا تطرقنا إلى الحديث عن السلاح البحري في ليبيا نجد أن بداية تشكيله كسلاح رئيسي من أسلحة الجيش الليبي كانت خلال سنة 1962، وقد تم في تلك الأثناء إيفاد العديد من الكوادر الوطنية لتلقّي التأهيل والتدريب التخصّصي في أكاديميات بحرية لدى العديد من الدول الأجنبية، منها بريطانيا التي كانت قد تكفلت بتقديم شيء من الدعم اللوجستي والمساندة الفنية للقيادة الليبية في ذلك الوقت بما يساعدها على إقامة هذا السلاح. وعلى امتداد السنوات التي أعقبت مرحلة التأسيس شهدت البحرية الليبية بصورة ما أشواطا متلاحقة من التجهيز العسكري ورفع القدرات البشرية.. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم: ما مدى مراعاة الحيثيات ذات الصلة بالإستراتيجية البحرية خلال تلك الأشواط، وهل تم إنفاذ منهجية الفكر البحري في غضون ذلك، وهل تم ملاءمة المعطيات الخاصة بجغرافية ليبيا وملامح بيئتها البحرية في تلك الأثناء؟
على العموم ومهما يكن من أمر فإنه من الأهمية بمكان الإجابة عن هذه الأسئلة، وبالتالي استخلاص النتائج بغية الوصول إلى إعادة تقييم وضع البحرية الليبية والوقوف على مواطن الصواب والخطأ فيها، ومراجعة التجارب السابقة واستنباط الدروس المستفادة.. هذه الواجبات الخطيرة ملقاة على عاتق ضباط وأكاديميي البحرية الليبية وسائر المعنيين من أهل الإختصاص، إذ يتعين عليهم أن يعملوا بجدية على إعداد الدراسات البناءة وتقديم التصورات المجدية لإعادة تنظيم وبناء القوات البحرية في ليبيا وتطويرها، وبالتوازي مع ذلك ينبغي في ذات الوقت بحث سبل تعزيزها بالقدرات البشرية الفاعلة ودعمها بما يلزم من الوسائل التكنولوجية الحديثة. ومن الأهمية بمكان أن تتخذ كل تلك الخطوات بصورة واقعية ضمن برنامج وطني مرحلي مشفوع بخطة محكمة، تتناسب مفرداتها مع المعطيات الجغرافية والواقع الإقتصادي للبلاد. وهذا وحتى يكون البرنامج الآنف الذكر على جانب معتبر من الفاعلية، لا بد من أن ينفذ بنسق يستهدف في المقام الأول الغاية المتوخاة ويرقى بالتالي إلى مستوى اقتدار ليبيا على ممارسة سيادتها على مجالها البحري لحماية وضبط سواحلها ومياهها الإقليمية حتى يتسنى لها إرساء الأمن وترسيخ الإستقرار في ربوع البلاد، والتصدي للأعمال غير المشروعة، وبما يفضي من جهة أخرى إلى استثمار البحر لصالح تحقيق التنمية الإقتصادية في مختلف المجالات الممكنة.. إلى ذلك ينبغي على صناع القرار في دولة ليبيا، متى يكون ذلك متاحا في قادم الأعوام، إعطاء أهمية قصوى للمشاريع البحرية بما يدفع باتجاه التطلعات والآمال المنشودة.