الحرب تتغير وتتخذ اشكالاً جديدة غير معهودة , وهذه المرة أختلفت الأحداث كلياً لتظهر بصمات العدو الإسرائيلي الذي غير في آلياته وتكتيكاته بشكل مفاجئ في عملية قوية لم تكن الحرب فيها بصورة توغل بري بالمدرعات والمشاة ولاهجوماً بالطيران المقاتل
والغارات الجوية ولاهجوم بحري كان هجوماً مربكاً وغير مسبوق امتزجت فيه التقنيات الحديثة بعنصر الإختراق الأمني بحيث استطاع القيام بعملية تفجير واسعة ودقيقة للغاية أستهدفت وسائط الإتصال التي يستخدمها عناصر حزب الله من اجهزة النداء ما يعرف بالبيجر وأجهزة الإتصال اللاسلكي في مختلف مواقعهم في ضربة مفاجئة.
الحدث بدأ بانفجارات عديدة في حوالي الساعة 3:30 بالتوقيت المحلي يوم الثلاثاء ، وقعت في مناطق متفرقة في لبنان بما في ذلك الضاحية الجنوبية لبيروت وكانت متتالية ومتزامنة ليتبين أن مصدرها أجهزة البيجر والاجهزة اللاسلكية من نوع icom v82 في ضربة موجعة وغير متوقعة لعناصر الحزب وقيادته.
البيجر هو جهاز إلكتروني صغير مخصص للإتصالات يسهل حمله ويستخدم لاستقبال الرسائل القصيرة أو رقم الشخص الذي يحاول الاتصال بالجهاز وتتمتع أجهزة النداء (البيجر) ببعض المزايا والعيوب فيما يتعلق بالخصوصية مقارنة بالهواتف المحمولة وتقنية عمله تعد قديمة نسبياً حيث يعتبر أحادي الاتجاه بمعنى أنه جهاز استقبال فقط ( أي أنه لا يرسل أي معلومات إلى محطة القاعدة) وبالتالي فلا يمكن تتبع موقعه وكان يُستخدم بشكل شائع قبل انتشار الهواتف المحمولة لإرسال واستقبال رسائل نصية قصيرة أو تنبيهات , وقد يكون ذلك هو ما دفع الحزب لإستخدامه في اتصالاته بين عناصره حيث يعتقد بأنه كان آمنا نسبيا لحامله من حيث الإختراق والتصنت عن غيره من أجهزة الإتصال الحديثة.
العملية كونها عملية مخابراتية فقد كانت معقدة ودقيقة جداً فقد جمعت بين أحدث ما توصلت اليه التقنية في التفجيرات عن بعد وعمليات الإختراق التقنية في العالم وتأتي دقتها كونها لم تعطل فقط عنصرًا رئيسيًا في منظومة اتصالات الحزب ، بل كشفت عن هوية الأعضاء، وقتلت وجرحت المئات منهم في ضربة واحدة , خاصة وأن حزب الله يعتمد في تنظيمه وعملياته على السرية التي كانت من ابرز سمات نجاح عملياته ويوفر حماية لخطوط اتصالاته بالاعتماد على شبكة اتصالات تعتمد على أجهزة النداء وخطوط داخلية محددة ومحمية من الألياف الضوئية , مع تخليه عن استخدام أجهزة الاتصال عالية التقنية لتجنب اختراقها ببرامج التجسس على الإتصالات الإسرائيلية والأمريكية.
من خلال الصور التي أنتشرت في وسائل الأعلام تبين أن أجهزة البيجر التي استخدمت في العملية كانت من ضمن الطلبية التي تلقتها شركة "غولد أبولو" كانت تتضمن حوالي خمسة آلاف جهاز، معظمها من طراز "Apollo Gold "AR-924 ويبدو أن الشحنة المملوكة لحزب الله والتي استوردت في الأشهر الأخيرة تعرضت لعملية تطلبت قدراً هائلاً من المهارة التي لا تستطيع أي دولة في العالم، وربما حتى الولايات المتحدة، تحقيقها حيث زرعت بطاريات مفخخة أو شرائح من المواد المتفجرة عالية القوة أو ماشابه على تلك الأجهزة المستوردة والتي وزعت على عناصر الحزب.
ومن المحتمل أن هذه المادة زرعت مسبقا قرب أو داخل بطاريات أجهزة البيجر التايوانية الصنع ربما خلال عملية الإنتاج وربما خلال سلسلة التوريد إلى أن تلقاها حزب الله وأنفجرت بشكل كامل عندما وصلت إليها رسالة مشفرة أدت إلى تفعيل المواد المتفجرة بشكل متزامن.
وضمن تقارير صحفية حول الحدث أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" أن أجهزة النداء اللاسلكية "بيجر" التي انفجرت بأيدي عناصر حزب الله بشكل متزامن يوم الثلاثاء، تم تصنيعها في تايوان وقامت إسرائيل بتفخيخها قبل وصولها إلى لبنان.
في الحقيقة لا تتوفر معلومات مؤكدة تروي ما جرى ولكن ما يتداول هو آراء قد ترجح صحتها وقد تخطيء حيث أن هناك رأي يقول بأنه أستخدمت في العملية مادة متفجرة بلاستيكية هي RDX أو مادة PETN أو خليط من الاثنين معاً، وهي من أكثر المواد الانفجارية قوة , ولها سرعة انفجار عالية ويمكن لكميات صغيرة منها التشظي وإحداث تفجير قاتل ومؤثر, مما زاد من خطورة نتائجها على الأفراد.
وهناك رأي يقول بأن الهجوم استهدف بطاريات الليثيوم والإنفجارات نتجت عن إختراق تقني لخوارزميات الأجهزة ليتم تفجير البطاريات عن بعد حيث أن بطاريات الليثيون هي القاسم لكل الأجهزة التي أنفجرت مثل البيجر واجهزة التخاطب اللاسلكي وأجهزة بصمة الأصبع وأجهزة الطاقة الشمسية وحواسيب ديل وهواتف أيفون.
وهذا الرأي يعزز أن ما جرى هو عبارة عن خرق أمني وأن العمل تجاوز وصف كونه عملية تفجير مخابرتية ليصل الى درجة عمل إرهابي وجريمة حرب وقعت عن سبق تخطيط وترصد.
كان تأثير هذا الهجوم واسع النطاق، حيث أعلن عن مقتل ثلاثة وعشرين شخصاً حتى الآن وأصابة أكثر من 2800 آخرون، من بينهم 200 في حالة حرجة وقد شمل بعض الضحايا المدنيين غير المنتمين لحزب الله تواجدوا لحظة التفجير في أماكن قريبة من عناصر الحزب.
ووصف السيد نصر الله الضربة بأنها قاسية ومؤلمة وغير مسبوقة لكنها لن تكسر ولن تحقق الإنتصار للعدو.
وفي خطوة سريعة لتلافي مزيداً من الإصابات أبلغ الحزب جميع عناصره بالتخلي فورا عن تلك الأجهزة كإجراء إحترازي لتجنب ما قد يحدث مستقبلاً خاصة وأن الإختراق قد يكون أكبر من ذلك.
وفي تنصل للشركة المصنعة من الحادث قامت شركة غولد أبولو التايوانية المصنعة للأجهزة بنفي تورطها في تلك القضية، موضحة أن أجهزة اتصالات حزب الله المنفجرة ليست من صناعتها وأقرت في الوقت ذاته أن الأجهزة تحمل علامتها التجارية وصنعت بدولة النرويج .
الهجوم كشف عن إختراق أمني كبير في حزب الله وأجهزة الدولة اللبنانية بشكل عام لأن الوصول الى شحنة أجهزة بالآف وتفخيخها ليس بالأمر السهل خاصة وأن الحزب ينوي استخدامها للإفلات من عمليات المراقبة والتنصت التي يتعرض لها من عدوه اللدود وهنا تبرز العديد من التساؤلات حول أهمية التقيد بتعليمات الأمن و تأمين أنظمة المخابرة والأتصالات للحزب التي تعتبر العمود الفقري للتنظيم وعن سلسلة التوريد اللوجستي التي تتعامل بمهنية وسرية مع التخطيط والتنظيم والتنفيذ والرقابة على جميع العمليات المرتبطة بالتوريد والتوزيع والنقل وتخزين المواد والمنتجات التي تبين انها مخترقة وأفضل وسيلة لتلافي ذلك معالجة هذا الاختراق بسرعة وسرية.
التقييم العملياتي للهجوم يعتبر ناجحاً وحقق للعدو إنتصارا لحظيا ومع أنه أستعراض لقوة استخبارات العدو وقدرتها على الإختراق والعمل المنظم إلا أنه لم يحقق غايته في زعزعة معنويات مقاتلي الحزب وثقتهم في قيادتهم وهذا هو الأهم.
ونشرت وسائل الإعلام خطابا سابقاً للسيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب وهو يحذر من إستخدام الهواتف المحمولة وأجهزة الإتصالات ويعتبرها عميلاً قاتلاً للعدو ومنذ أكتوبر 2023 نجحت إسرائيل في تنفيذ عمليات اغتيال ناجحة طالت قيادات عسكرية في جنوب لبنان، وهذه العمليات نفذت بناء على معلومات استخباراتية دقيقة، وعكست أن هناك اختراق واسع للحزب يبدو أنه لم تكن هناك إجراءات حاسمة لمنعه مستقبلاً.
ويبقى الهجوم هو الحدث الأبرز والأكثر جرأة لضرب عناصر حزب الله في معقلهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المحاصر كما أنه يعتبر نقطة تحول في الصراع بين حزب الله وإسرائيل، وسيعيد تشكيل الديناميكيات الأمنية في المنطقة وبحسب تصريحات الحزب سيكون رد الحزب إنتقاميا على هجوم العدو المباغت..
ولكن ماذا بعد الرد . هل سيؤدي ذلك لحرب طويلة يشتد اوارها ليصل للجميع حربا انتقامية من طرفي الصراع لرد الاعتبار وفرض الإرادة .
قادم الأيام سيكون مزدحما بالاحداث وقد يتخذ فيها الصراع العربي الاسرائيلي أو حزب الله وحماس وجيش الاحتلال أساليب جديدة لفرض وجوده وفي كل الأحوال الخاسر هو المواطن الذي يقع بين فكي الرحى .