تحدثنا في العدد السابق عن أبرز ملامح الوضع الأمني في ليبيا قبل الثورة ومدى تأثير هذا الوضع على المشهد أو الحراك الأمني بعد نجاح الثورة وإعلان التحرير،
كما أوضحنا كيفيه التعامل مع هذا الوضع الجديد والحد من خطورته قدر المستطاع، اليوم وفي هذه المقالة وهي الثالثة من سلسلة (مفاهيم في الأمن) سنتعرض للحديث عن الوضع الأمني في ليبيا مستقبلاً على المديين القريب والبعيد من خلال سرد جملة من العوامل التي سيكون لها التأثير الأكبر في تحديد ورسم الخارطة الأمنية لليبيا.
هذه العوامل من وجهه نظري هي من الأهمية بمكان بحيث إن أي تهاون أو تقصير في التعامل معها بالكيفية المطلوبة والمفروضة سيدخل البلاد نفق ضيق ومظلم لن تستطيع الخروج منه إلا بشق الأنفس.
أول هذه العوامل وأهمها على الإطلاق هو:
العامل الاقتصادي:
لا يخفى على أحد مدى أهمية هذا العامل وتأثيره على فرض الاستقرار ودعم مسيرة التنمية وتحسين مستوى المعيشة للفرد والأسرة وكذلك الدولة.
وهو كذلك مصدر قوة الأمة وركيزة من ركائز بنائها ودوام بقائها؛ لذلك سيكون للعامل الاقتصادي أكبر الأثر في تأمين الاستقرار والقضاء على المشاكل المادية ذات العلاقة باستقرار البلاد، وأملنا كبير في أن تضع الحكومة المنتخبة نصب أعينها الاهتمام بهذ العامل.
الذي يلي العامل الاقتصادي من حيث الأهمية هو عامل تعدد القوميات واللغات وقضية الاستحقاقات:
قد يتساءل البعض عن علاقة تعدد القوميات واللغات في المجتمع الواحد بالأمن والاستقرار، وأنا هنا سأتحدث وباختصار شديد عن الجانب الأمني في هذه النقطة، ليبيا الجديدة وليبيا المستقبل ليست بمعزل عن العالم الخارجي، وهناك الكثير من دول العالم التي تدخل في مكونات شعوبها قوميات عديدة، ولكل قومية منها خصوصيتها وهويتها ولغتها وثقافتها.
ومكونات المجتمع الليبيي هي (عرب، أمازيغ، تبو)، ولكل مكون من هذه المكونات لغته وثقافته وهويته وأصوله التاريخية؛ لذلك فإن حرمان أي من هذه المكونات من أي حق من حقوقها الطبيعية سيولد حالة من عدم الاستقرار الأمني، وإن أي خلاف بين هذه المكونات سيضعف قوة الدولة بشكل عام، وهنا تكمن الخطورة، فأمن ليبيا وقوتها هو في وحدة مكونات مجتمعها، ومن فضل الله علينا ورحمته أن هذه المكونات يربطها رباط مقدس هو رباط الإسلام، وهو من أقوى عوامل وحدتها وعدم تفرقها.
عليه فإن الدولة أو الحكومة الآن ملزمة بأن تراعي هذه الاستحقاقات وتضمنها في الدستور، وتسن لها القوانين المناسبة منعاً لأي تجاوزات قد تحدث في المستقبل بسبب ذلك.
شكل الحراك السياسي الجديد (تعـــــدد الأحـزاب)
لا شك أن الصراع على السـلطة هو من أكبر العوامل المؤثرة على أمن واستقرار أي دولة لما يحمله هذا الصراع في طياته من خفايا وأسرار، وحروب غير معلنة يسعى أصحابها من خلالها للاستحواذ على السـلطة والفوز بها، وسينحصر الصراع على السلطة في ليبيا مستقبلاً بين الأحزاب بغض النظر عن مسمياتها وأيدولوجياتها وأجنداتها.
وبما أن هذا النوع من الحراك السياسي لا يزال حديث العهد في ليبيا وأن معظم الليبيين لا يجيدون قوانين اللعبة السياسية ولا يفقهون الكثير من أسرارها وخفاياها لذلك فمن الممكن جداً لهذه الأحزاب أن تستمر على وضعها القائم، وتتخذ بعض الخطوات التي يكون لها ردود سلبية على النواحي الأمنية، ومن بين هذه الخطوات:
أ. قد تتخذ بعض هذه الأحزاب أجنحة عسكرية تأتمر بأوامرها، وتعمل على فرضها باستخدام القوة، وهو ما يتنافى مع طبيعة الدولة الجديدة.
ب. سيطرة هذا الحزب أو ذاك على تولي الحقائب السيادية في الدولة (الدفاع، الداخلية، الخارجية) وتسخيرها لخدمة مبادئه دون مراعاة لمصلحت الوطن والمواطن.
ت. إمكانية بسـط نفوذ الحزب على مراكز صناعة القرار والتحكم فيها وتوجيهها.
ث. مصادر تمويل الأحزاب وتأثيرها على قرارات الحزب.
ج. كما أنه من الممكن أن يكون هناك خطوات أخرى يمكن أن تؤثر في المسيرة الأمنية، وعلينا جميعاً التحلي باليقظة والفهم الجيد لهذا الأمر، ومطالبة الحكومة أن تتخذ خطوات احترازية تحد من صلاحيات هذه الأحزاب إلى أن يتم الانتهاء من وضع الدستور والقوانين المنبثقة منه والتي تحدد واجبات وحقوق وصلاحيات الأحزاب بالشكل الذي لا يؤثر على أمن واستقرار الدولة.
الطائفية الدينية (المد الشيعى، التنصير):
نسمع بين الحين والآخر عبر منابر المساجد وكذلك في المجالس الحديث عن ظهور بوادر التشيع، وكذلك التنصير بين بعض الليبيين وخاصة فئة الشباب، وبغض النظر عن حقيقة هذا الأمر من عدمه فإن الواجب يفرض علينا التعامل معه بكل حزم وجدية واتحاذ كل ما يلزم لمنعه ضماناً لأمننا واستقرارنا، فهو أخطر علينا من السلاح الذري، وأنا هنا بالذات لا أنبه فقط، وإنما أدق ناقوس الخطر على مستقبل أبنائنا وأحفادنا، فما الوضع الأمني في العراق عنا ببعيد، فاعتبروا يا أولي الألباب.
العامل الخامس: تداعيات حل الأجهزة الأمنية العاملة بالسـاحة:
من الطبيعي أن تكون قضية الأمن وتأمين الاستقرار من مسؤوليات المؤسسة الأمنية المختصة، وهي (الجيش،الشرطة، الحرس البلدي، الجمارك) إلا أنه وبسبب ما تعرضت له هذه المؤسسة من تصدع أسهم في شل حركتها بشكل واضح أصبح من ضرورات المرحلة أن تتولى هذه المهمة أجهزة جديدة تم تشكيلها من الثوار الذين أسهموا في تحرير البلاد، ومع مرور الوقت أصبحت هذه الأجهزة مراكز قوة من الصعب جداً حلها وتفكيكها بهدف عودة أفرادها إلى سابق عملهم ليساهموا في عملية البناء والتنمية، وليفسحوا المجال أمام المؤسسة الأمنية المتخصصة بعد أن استعادت وعيها ونشاطها وعافيتها، وهو ما سيسهل عمل الحكومة بشكل أفضل وأسرع في فرض الأمن والاستقرار.
أخيراً علينا أن نكون على يقين تام بأن نجاح الحراك الأمني لا يتم إلا باستكمال عناصر المعادلة الأمنية التي تضم العنصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمادي مع شرط إعداد القوة اللازمة لتنفيذه على أسس علمية، وباستخدام أحدث ما وصلت إليه المؤسسات الأمنية في العالم من تقنيات في مجال صناعة الأمن، ولعل خير ما نختتم به مقالتنا هذه قوله -تعالى- في سورة النساء: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ صدق الله العظيم