كتبت سابقاً حول التعليم العسكري وتطويره وأشرت إلى أن الإهتمام بالجغرافيا في العلم العسكري هو أمر ضروري ولازم لرفع مستوى إدراك العسكريين وزيادة إلمامهم بالعلوم بشكل عام , وبيّنت أن الجغرافيا بمفهومها الجديد تنقسم إلى عدة أنواع
وقد كانت مُدمجة معاً إلى أن تم الإنفصال بين أنواعها لزيادة أهميتها حديثاً.
و من خلال دراستي لهذا العلم سأتعرّض هنا إلى ثلاثة أنواع من الجغرافيا وتأثيرها على الأعمال العسكرية:
أولا: الجغرافيا الإستراتيجية:
وتهدف إلى (جمع- ومقارنة- وتفسير) المعلومات الجغرافية الأساسية لاستخدامها في إعداد الخطط لإدارة الحرب أو لإدارة العمليات أثناء الحرب ويمكن إيجاز أهداف الجغرافيا الإستراتيجية في ستة نقاط رئيسية هي:
- إمكانية الوصول: ويُقصد بهذا التعبير المعنى المادي للكلمة وهو يقضي بوجود الأجهزة والمنشآت الخاصة بذلك، ويتضمّن اعتبارات كثيرة مثل حرية اختيار الطرق والمحاور والمسالك المختلفة وتقييمها، والمسافات ووقت الحركة والمواقع والحواجز وطرق الوصول، إمّا باستخدام العربات أو الطائرات أو السفن، حيث تتأثر كل هذه الوسائط بالعوامل الجغرافية باعتبار أن إمكانية الوصول تتاثّر بشكل مباشر قياسا من نقطة الإنطلاق إلى مكان الوصول.
- الحركة أو الحركية: وهي القدرة العامة على التحرك، وتتضمن سرعة التحرك والتقدم وحرية اختيار وسائط النقل وكثافة حركة المسير والمضائق وأعناق الزجاجات والمؤثّرات الجوية الموسمية، بالإضافة إلى مدى ملائمة محطّات ونقاط الوصول وكفاءتها ولا تعتمد الحركية على القدرة ومرونة الحركة واتجاهها فحسب، بل أيضا على الوسائط التي يمكن تحريكها واستخدامها وتنظيم حركتها والحقيقة أن الحركية تُعنى بدرجة أكبر بتنظيم معدات ووسائط النقل؛ فهي تشمل في حساباتها تناسق جميع وسائل النقل مع حمولاتها ومرونة حركتها وفق الطرق المتوفّرة وأنواع واستخدامات وسائط النقل (برية- بحرية- جوية).
- إمكانية الرُّؤية: ويشمل التعبير هنا مجالات الرؤية البصرية والسمعية، بل واستعمال الحواس الأخرى، بالإضافة إلى اشتماله المعرقلات (أرض- طقس- ظلام- أعمال أرضية مضادة من قبل الإنسان «مخابئ، غش، إخفاء») وأيضا التّعرّف على الأهداف ومجالات الرّمي للأسلحة المختلفة بشكل مجدي، بالإضافة إلى تضاريس الأرض، بما في ذلك الإختلافات في قيمة هذه المكوّنات فوق منطقة القتال المأخوذة في الإعتبار وتغيّراتها الدائمة واليومية والفصلية.
- إمكانية الإتّصال: وتعني القدرة على نقل المعلومات، وهي تتضمّن تأثير الطقس والعواصف المغناطيسية وطبيعة الأرض، ومستوى التقدّم العلمي في أجهزة البث والتشويش وسهولة برمجتها وصيانتها وتتعلق النواحي الجغرافية فيها بإمكانية وجود أوضاع قد تُؤثّر على أجهزة الإتّصال في أماكن معيّنة فنحن نعلم فنّيّاً تأثّر أجهزة الإتصال الثابتة بالمناطق الكثيفة السكان والقليلة السكان، كما أن الأجهزة السلكية أيضا تتأثر بعدد الطرق الموجودة بالمنطقة بالإضافة إلى تأثرها بالحرارة والبرودة، ناهيك عن العواصف واضطرابات الغلاف الأيوني للأرض من منطقة إلى أخرى، إضافة إلى الغابات والجبال وتأثيرها على نوعية الأجهزة الخاصة بالإتصال.
- إمكانية التجمّع والتحشّد: لا يعني هذا التعبير مجرّد تجمع أو تحشّد الأفراد والمعدّات والإمدادات، بل ضرورة وجودهم في المكان والوقت المحدّدين لكافة متطلّبات المعركة واستعدادهم للدخول في المعركة بكامل عتادهم ومعدّاتهم فوراً.
- المناعة أو الحماية: وهي ما تقوم به القوات في إطار تحقيق الأمن والأمان للمدننين وتأمين المرافق العامة والصحة العامة وموارد العيش، وغيرها من المرافق الضرورية للمحافظة على المعنويات وضمان الولاء ولا يعني ذلك الحماية من الهجمات المعادية فحسب، بل أيضا الحماية من الدعاية المضادة والنشاطات الهدّامة والتخريب والأخطار الطبيعية.
وتتمحور جميع هذه العوامل أو النقاط الآنفة الذكر حول العامل الرئيسي منها وهو إمكانية الوصول والحقيقة هناك تفاعل بين كافة العناصر سواءً كانت بصرية إلكترونية مباشرة أو غير مباشرة وسواءًا كان هناك اشتباك بالأسلحة من عدمه وآخر القول إن التقييم الإستراتيجي يعتمد على نوع الهدف أو الأهداف وكيفية الوصول إليه والعوائق المؤثّرة.
ثانيا: الجغرافيا السياسية:
وهي نوع من الجغرافيا يبحث في العلاقات التي تربط الدّول ببعضها البعض وعلاقة ذلك بمعطيات الطبيعة وقوانينها وكانت هذه الجغرافيا معروفة من قبل ولكنها مبعثرة بين مجموعة من العلوم الجغرافية (إقتصادية- بشرية- طبيعية- إقليمية- مناخية- تاريخية) ويُعتبر الجغرافي "فريدريك راتزل" أول من قدّم صياغة للجغرافيا السياسية، وقد اعتبر أن الحرب مرحلة هامة من السياسة والجغرافيا، وأن الدولة كائن حي وأن هناك تشابهاً بين البناء الجغرافي والبناء السياسي من جهة، وبين الكائن العضوي من جهة أخرى (المجال الحيوي) للدولة ومصالحها، حتى غدا تعلّم الجغرافيا السياسية مرادفاً لتعلّم تقنية خاصة في إدارة العملية السياسية للدّولة.
حيث أصبحت الجغرافيا السياسية مبنيّة على مبادئ الإكتفاء الذاتي القومي للدولة (بأن تملك توازن اقتصاديّ وتستقل بإنتاجها) والمجال الحيوي للدولة وهو المجال اللازم لشعب ليعيش ويتطور ويتحرّك ويُفجّر طاقاته وإمكانياته وقدراته، وهذا المجال يسمح لأي شعب يعيش تحت ضغط ما أن يمتدّ فيضم إليه الأرض التي تؤمّن له تفاعلاته والأمثلة في التاريخ القديم والمعاصر كثيرة منها ما تحقّق ومنها ما أصابه الفشل.
ثالثا: الجغرافيا العسكرية:
قد لا نجد في المدلول العلمي كلمة جغرافيا عسكرية إلّا أن الجغرافيا يُنظر إليها كلٌّ من الزاوية التي تهمّه أو في ضوء المعلومات التي يحتاجها، فمثلا يستخلص العسكري من الجغرافيا الطبيعية والبشرية والمناخية ... الخ كل ما يراه مؤثّرا على سير عملياته المُرتقبة أو الجارية.
ومن هنا درج العسكريون، وجاراهم أهل العلم، على إطلاق إسم (جغرافيا عسكرية) على تلك المعلومات التي تهم العسكريين من الجغرافيا ككل ومن الضروري التفريق بين الجغرافيا العسكرية لأهداف إستراتيجية وبين الجغرافيا العسكرية لأهداف تعبوية فالأولى تُلبّي حاجات إستراتيجية وسياسية من الشمولية والبُعد الأثري، فهي تتناول الجغرافيا بشكل عام بالإضافة إلى الجغرافيا الطبيعية والبشرية والعناصر الإقتصادية والإجتماعية والسياسية التي تُسهم جميعها في تقييم مدى قوّة العدو ككلّ وخاصة نقاط ضعفه وإمكاناته، بينما تُلبّي الجغرافيا العسكرية تعبويّاً حاجات الوحدات المقاتلة في معرفة خصائص مناطق القتال من حيث التمركزات والحركات وطبيعة المعارك القتالية.
وتتناول الجغرافيا العسكرية حقولا أربعة لكل منها، منفردة أو مجتمعة، تأثير مباشر على سير العمليات العسكرية في منطقة العمليات، فلا شك أن سطح الأرض وباطنها ومجاري المياه فيها وأغطيتها النباتية (أحراش- غابات- أراضي زراعية) وعناصرها البشرية تلتصق التصاقاً مباشراً بشكل المناورة (قتالا- تحرّكاً- تمركزاّ- إدارةً).
ويدرس العسكريون سطح الأرض وباطنها من عدّة أمور بهدف معرفة إمكانات الحركة في منطقة ما وإمكانية إنشاء دفاعات الميدان والموانع،ومنابع التزوّد بالمياه والمصادر المختلفة للدعم الإداري ( لوجستيك ) وأيضا معرفة المناطق الطبيعية بما فيها الأماكن الصالحة للمخابئ، وأثر كل ذلك على تمركز الوحدات وانتقالها.
ومن الأهمية في هذا السياق، دراسة منحنيات الأرض لتحديد نوع المناورة المناسبة واتجاهاتها، وأيضا دراسة الأنهار والأودية من حيث عرضها وعمقها ونوع تربة القاع وسرعة جريان مياهها وإمكانية اجتيازها، وأماكن إنشاء المعبّرات والجسور بأنواعها وفقا لاتجاه المناورة ولا بدّ من دراسة الغطاء النباتي بأشكاله لمعرفة مدى ما يوفّره من إخفاء للقوات والإستطلاع وفاعلية النيران، ومدى تحقيقها للمفاجأة وعمليات التسلّل والكمائن وكذلك قابلية النيران فيها.
أما العناصر البشرية في الجغرافيا العسكرية فهي تتناول الطرق والجسور والحدود ومسالك الملاحة وملكية الأراضي والتجمّعات السكنية والمدن والمصادر الطبيعية المحلية وأخيرا المُركّب السكاني (قبلي- مدني- قومي) وفي كل بند من البنود المشار إليها يجتهد العسكريون في معرفة مدى تأثيرها على أعمال القوات القتالية.
ولقد درج العسكريون في معظم دول العالم على تكليف المخابرات العسكرية بهذا الواجب (الجغرافيا العسكرية) بحكم كونها معلومات تدخل كبند هام من ضمن بنود تقريرها المعلوماتي وباعتبارها من ضمن عناصر اتخاذ القرار لدى القادة.