عندما ُيؤرّخ للإنجازات ويُحتفل بها فإنما ذلك من باب المباركة والإعتراف بفضل صانعيها الذين قدموا شيئا نافعا للبشرية. أما إذا كانت الإنجازات عكس ذلك، فالحديث عنها يعني الفرق بين المباركة والإنكار، كما يعني المفاضلة بين الخير والشر، وشتان بين النقيضين.
السلاح النووي إنجاز سيّء، تأثيراته مروّعة ظهر بحلول العقد الخامس من القرن الماضي، فما هي قصة خروجه إلى الوجود وملابسات استخدامه؟
حلول شهر أغسطس 1939، أي قُبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، كان ألبيرت إنشتاين وثلّة من رفاقه العلماء قد رفعوا تقريرا إلى روزفلت تمحور حول الجهود التي يقوم بها النازيون في ألمانيا من أجل تخصيب اليورانيوم، وهو ما يعني أنهم قد يتوصّلون في وقت لاحق إلى إنتاج قنبلة ذرية. على إثر ذلك، واستباقا للأخذ بزمام المبادرة، عكفت الولايات المتحدة على اتخاذ جملة من الترتيبات الجادّة للقيام بدراسات وتطوير أبحاث ترمي إلى تصنيع قنبلة ذرية، فيما يُعرف بمشروع مانهاتن، الذي بدأ تنفيذه بحلول أغسطس 1942 والذي تبنّاه وشارك فيه مجموعة من العلماء المختصّين، علاوة على الآلاف من العاملين.
في هذه الأثناء كانت عقولٌ قد انكبّت على العمل مصمّمة على حتمية إحراز النجاح والوصول إلى الغاية المتوخّاة، رغم ما يعتري هذه المهمة من تعقيدات جمّة في ذلك العصر، ولاسيما فيما يختصّ بعمليات استخراج وتنقية اليورانيوم بما في ذلك عمليات التخصيب وخلافه.. علماء وخبراء وباحثون ثابروا على هذا العمل وعلى إخراجه الفعلي إلى حيّز الوجود.
توالت الأشواط على هذا الصعيد فتلاحق إنجاز المراحل، الواحدة تلو الأخرى فتمّ إنشاء المرافق المطلوبة لتخصيب اليورانيوم والفصل المغناطيسي واستعمال الطرد المركزي لمادة اليورانيوم.. هكذا إذن أخذ هذا البرنامج النووي يمضي قدما وهو يشُقّ طريقه بوتيرة متسارعة وسط تدابير بالغة السرّية، اكتملت خلالها الترتيبات في زمن قياسي.
وتواصلت الجهود على مدى ثلاث سنوات وكانت محاطة بسياج من الكتمان حتى أثمرت على عمل جسيم، لكنه بلا شكّ عمل غير صالح، وُلد على إثره المارد الخطير الذي يتهدّد البشرية مُتمثلا في السلاح النووي الأمريكي الذي خرج إلى العالم مجسّدا أول قنبلة ذرية في التاريخ.
في شهر سبتمبر 1944، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية القرار باستخدام السلاح النووي ضد اليابان. وفي وقت لاحق رشحت بشكل مبدئي سبعة عشرة مدينة يابانية كأهداف متوقّعة ثم قلصت القائمة إلى أربع وأخيرا استقرّ الرأي على الإبقاء فقط على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في قائمة الإستهداف. في شهر يوليو 1945، تلقّى الرئيس الأمريكي رسالة مفادها أن السلاح النووي الأمريكي أصبح جاهزا للإستخدام بعد اختبار إحدى القنابل الذرية بنجاح لدى تفجيرها بمنطقة ألاموجوردو بنيومكسيكو. حينئذ لم يبق أمام المسؤولين الأمريكان سوى تحديد ساعة الصفر. وعندما تم الإتفاق بين الرئيس الأمريكي وقادة الأركان على قصف اليابان نوويا في شهر أغسطس، اقترح بعض الحاضرين إبلاغ الدولة اليابانية بذلك حتى تقوم بإخلاء الأهالي حتى لا تكون هناك خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، غير أن أغلبية المجتمعين رأوا أن تكون الضربة مفاجئة للإستفادة من ميزة المباغتة. صبيحة اليوم السادس من أغسطس 1945. حلقت طائرة تابعة للسلاح الجوي الأمريكي من طراز بي 29 في سماء مدينة هيروشيما على ارتفاع 1980 قدما وعلى متنها قنبلة ذرية تزن أربعة أطنان ونصف.
لم يكن متوقّعا حينذاك حجم الدمار الذي سيحدثه هذا الجسم الغريب الذي أطلقته الطائرة وقد أضحى معلقا في الجو لمدة دقيقة واحدة على مظلة أخذت تتهاوى رويدا رويدا إلى أن انفجر هذا الجسم حينما اقترب من سطح الأرض بمسافة 600 متر.
فجأة شُوهد وميض صاعقة من البرق أو ما يشبه أعدادا كبيرة من الصواعق ينبعث منها وميض مبهر، ثم دوّى انفجار هائل، تلاه ظلام حالك. النتيجة دمار جسيم بقوة تفجيرية تعادل 20 ألف طن من مادة TNT الشديدة الإنفجار.
وقد كانت الحصيلة الأولية للأشخاص الذين لقوا مصرعهم على الفور 000 69. أما عدد المصابين والجرحى فقد تجاوز هذا الرقم ومات أغلبهم متأثرين بجروحهم أو بالتسمّم الإشعاعي. ويقدّر العدد الإجمالي للخسائر البشرية 140 ألف شخص فقدوا حياتهم. وسبّب الانفجار تدميرا كاملا لمساحة قطرها ميل ونصف وتدميرا بالغاً لمساحة قطرها ميلان ونصف، فيما بلغت نسبة التدمير والتصدّع في مباني ومنشآت المدينة 90%.
أما الحرائق فطالت مساحة قطرها ميلان ونصف أتت خلالها النيران على كل شيء فجعلته هباء منثورا..
وعلى هذه الشاكلة تمّ تدمير كل أساسيات الحياة بالمدينة فتقوّضت كافة مقوّمات المعيشة فلم يعد هناك من مأوى ولا مأكل ولا مشرب ولا ملبس، مع نقص حاد في الخدمات والإمداد الطبي وسائر الحاجيات. كما لم يعد ثمّة ما يذكر بالحياة وقد باتت الأوضاع مأساوية وحياة الأهالي تمثل انهيارا غير مسبوق على مستوى المعيشة، ما جعل الموت هو الوجه الوحيد الذي يُخيّم في رُكام المدينة وفي أذهان أبنائها ممّن لم يكونوا قد لقوا مصرعهم بعد. لم تكد تمضي ثلاثة أيام فقط على هذه الواقعة حتى جاء دور مدينة ناجازاكي ليستيقظ سكانها على دوي قنبلة بلوتونيوم وتقضي على ما يقارب 000 .40 منهم كحصيلة أولية، بالإضافة إلى سقوط 25000 مصابا. وكانت قوة الانفجار التي خلفته هذه القنبلة دون 10 كيلو طن بقليل.
وقد أدّت إلى تدمير منطقة تُقدّر مساحتها ب5 كم مربع، أي ما يعادل نسبة 40% من مباني المدينة. كانت ثمّة عوامل في ناجازاكي ساعدت على الحد النسبي من الإنتشار الواسع للحرائق قياسا لما حصل في هيروشيما.
وتمثلت هذه العوامل في طبيعة الأرض وتضاريسها بالإضافة إلى الأحوال الجوية واتجاه الريح يوم الهجوم. من جهة أخرى كانت وحدات الدفاع المدني قد انتخبت فضاء ملائما نجا من التدمير في محيط المدينة، وهو ما ساعد على التدخل الإستجابي للتعامل مع الكارثة وتيسير انسيابية الحركة والمناورة لبعض وسائل النقل، بما يتيح للمتطوّعين ولأطقم السلامة المحلية أداء مهامهم في إنقاذ من يمكن إنقاذهم من الأهالي، وممارسة عمليات الإخلاء الطبي وإسعاف المصابين وتقديم المساعدة لمن بقوا على قيد الحياة بعد الكارثة.
أوجد القصف النووي الأمريكي لليابان جدلا متصاعدا في مختلف الأوساط السياسية والعسكرية والإسترتيجية، وعلى مستوى الرأي العام في العالم. ولازال هذا الجدل مستمرّا إلى يومنا هذا. فالتأثير الذي أحدثه الهجوم النووي على مختلف الأصعدة و كذلك الذرائع المسوّقة من الجانب الأمريكي لتبريره كان موضوع الكثير من المناظرات الجدلية على مدى عقود من الزمن. وباختصار فإن القضية الجوهرية تكمن في إذا كان ما أقدمت عليه أمريكا ضروريا لتحقيق الغاية الأساسية وحسم الموقف لصالح الحلفاء، وفيما إذا كانت المبرّرات الأمريكية عقلانية ويمكن الإقتناع بها؟ وما هي حقيقة الأسباب التي أدّت بالولايات المتحدة إلى الإقدام على هكذا فعل في وقت كانت فيه إمبراطورية اليابان في الرمق الأخير، وقد غدت قاب قوسين أو أدنى من الإستسلام. فالخسائر المتلاحقة التي تكبّدتها اليابان، والإنهاك الذي أصابها بسبب أعباء المواجهة وتداعيات الحرب، قد أفضى بهذه الدولة إلى وضع لا يمكن لها معه بذل المزيد من الصمود رغم ما يُعرف عن الجيش الياباني من طول نفس وعناد. وإذا تحدّثنا عن صمود وبسالة المقاتل الياباني في هذا المعترك، فإنه ينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى ما سببه هذا الصمود من خسائر جمة في الأرواح في صفوف الجنود الأمريكيين. و يجدر بنا في هذا المقام أن نسرد حادثة بيرل هاربر الشهيرة، وهاربر هو اسم لميناء يقع في إحدى جزر هاواي، ويُعدّ من الناحية الإستراتيجية من أكبر المرافئ الحربية في العالم. ويشكل قاعدة بحرية أمريكية تمتد على مساحة شاسعة تتميز بحماية طبيعية منقطعة النظير. ففي السابع من شهر ديسمبر 1941 وقعت الحادثة، عندما تمكن السلاح الجوي الياباني بعملية انتحارية من تنفيذ عملية هجومية جريئة، استخدم فيها 360 طائرة حققت نجاحا ساحقا إذ تمكن خلالها من تدمير القاعدة الأمريكية، وقد ألحق في غضون ذلك هزيمة بالغة بالبحرية الأمريكية ترتّب عنها تدمير ثلاث بوارج وستّ طرادات و140 طائرة ومدمّرتين، أما الخسائر البشرية في صفوف القوات الأمريكية فقد بلغت حوالي 4500 بين قتيل وجريح. أعتبرت هذه الواقعة في صدارة الكوارث التي منيت بها أمريكا في العصر الحديث من حيث الخسائر البشرية والمادية، ناهيك عن مساسها بالسيادة والهيبة الأمريكية. ويرى بعض المراقبين أن واقعة الحادي عشر من سبتمبر 2001، تُضاهي حادثة بيرل هاربر في جملة من ملامحها، حيث تربطهما العديد من القواسم المشتركة حتى على مستوى النتائج وردّة الفعل الإنتقامية. بالعودة إلى تقييم ما أقدمت عليه أمريكا من هجوم نوويّ على مدينتين يابانيتين، ففي هذا السياق اختلف المحلّلون بين من أيّد التبرير الأمريكي القائم على أساس أن هذا الفعل قد سارع في إنهاء الحرب العالمية الثانية وبالتالي فإنه وضع حدا للخسائر البشرية الجسيمة التي كانت ستحدث على نحو متزائد لو استمرت الحرب.
فيما يصف آخرون التبرير الأمريكي بأنه يتنافى مع العقلانية ومعايير المنطق، على اعتبار أن الحرب كانت نهايتها وشيكة في ذلك الوقت، وأن ما أقدمت عليه أمريكا لا يعدو أن يكون إلّا استعراضا للقوة ورغبة في بسط النفوذ على العالم.
لعلّ الرأي الثاني هو الأقرب للصواب، بل إنه لكذلك وقد أثبته التاريخ.