يعود تاريخ هذه الحادثة إلى أكثر من مائتين وثلاثين سنة مضت، وتحديدا إلى شهر سبتمبر 1788، وقعت في منطقة البلقان داخل رومانيا في منطقة "كارانسيبس"، وذلك ضمن حملة أطلق عليها "معركة كارانسيبس"Battle of Karansebes))
جرى خلالها إشتباك دموي في ليلة حالكة الظلمة من ليالي فصل الخريف، وكان الخمر هو العامل المؤثّر فيها !
بداية الحادثة
كان "جوزيف الثاني"إمبراطور النمسا متقدّما في السن، ورأى أن يُحقّق عمل عسكريّاً بطوليّاً يُخلّد به اسمه في التاريخ، فلم يكن منه إلّا أن اتخذ قرارا بالحرب على الدولة العثمانية، لذلك قام بإعداد العُدّة لخوض حملة واسعة ضد ّالعثمانيين في محاولة لاستراداد منطقة البلقان من أيديهم..صحيح أن الملك تحقّق له ما كان يأمله من دخول التاريخ، لكن ليس على النحو الذي كان يتمنّاه..
الإعداد للحملة
حرص الإمبراطور شخصيا،أيّما حرص،على قيادة الحملة والتّحضير لها بنفسه، فحشد قوّة عسكرية متعدّدة الجنسيات؛مكوّنة من نمساويين وألمان وطليان وكروات وصرب، بلغ تعدادهم أكثر من 100 ألف جندي مُسلّح، وكانوا مزوّدين بالآلاف من الخيل، بالإضافة إلى مئات المدافع وآلاف القذائف، مع كمية وافرة من المستلزمات اللوجستية الأخرى وما يكفي من التموين, وكان الإمبراطور النمساوي وقادته على يقين من أنهم سينتصرون، وبأقل عدد من الخسائر البشرية، لكن االرياح كانت قد جرت بما لاتشتهي السفن بالنسبة إليهم.
الموقف لدى الجيش العثماني
كانت القوات العثمانية متمركزة في مواقع محدّدة في الجانب الآخر، وكانت هي الأخرى مجهّزة بما يلزم من رجال وخيالة وعتاد ومؤن، وظلّت مرابطة في حالة ترقّب واستعداد لخوض الحرب في الوقت المناسب.
شرارة الحادثة
في إحدى الليالي الحالكة انتقل مجموعة من الجنود النمساويين مُمتطين صهوات جيادهم عابرين الجسر إلى الضفّة الأخرى من نهر الدانوب المتمركزين بمحاذاته، وذلك لغرض الإستطلاع.. ولدى وصولهم قاموا بشراء براميل خمر من باعة غجر وجدوهم هناك، وجلسوا يشربون حتى لعبت الخمر في عقولهم فظلوا يعربدون، وقد تعالت أصواتهم بعد أن أصبحوا في حالة سكر ما دفعهم لممارسة الكثير من الشغب..وفي الأثناء كانت مجموعة أخرى من جنود المشاة الذين وصلوا لتوّهم واقتربوا منهم آملين في الحصول على بعض النبيذ، لكن الآخرين رفضوا استضافة زملائهم الوافدين وقرّروا الدفاع عن براميلهم ،لذلك أخذوا يطاردونهم لإبعادهم عن مجلسهم. هذا الأمر استفزّ جنود المشاة فتهوّر أحدهم وجعل يطلق أعيرة ناريّة، فما كان من الجنود الآخرين إلا الردّ، فحدثت على إثر ذلك مشاجرة تطوّرت إلى اشتباك بالسيوف والبنادق وتبادل كثيف لإطلاق النار، وانتهى الأمر بعراك دموي صاخب بين فصيلين من جيش واحد خلّف عديد القتلى في صفوفهم.
في الضفّة الأخرى من النّهر
وفي الضفّة الأخرى، كان أغلب الجنود نائمين، وعندما سمعوا أزيز الرّصاص المترافق مع الضجيج المتصاعد، هبّوا مذعورين ظنّاً منهم أن عدوّهم التركي قد باغتهم بالهجوم، ورأوا أن الواجب يُحتّم عليهم المسارعة إلى مواجهة هذا العدوّ وتنفيذ أي أوامر تصدر إليهم من قادتهم لدحره. غير أنّهم لم يجدوا من يوضّح لهم حقيقة الموقف، ما جعلهم في حالة شديدة من الذّعر والهلع. وبسبب الظلمة وانعدام الرّؤية،إضافة إلى عائق اللغة، لم يتبيّنوا حقيقة الوضع. وعندما تعالت أصوات بعض الآمرين لدى محاولتهم إصدار الأوامر بالتهدئة والتوقّف عن الفوضى وإلزام الحذر، سيئ فهم الأوامر حيث فسّرها البعض على أنها إنذار يفيد بهجوم يقوم به العثمانيون.
المواجهة الخاطئة
الوضع أوجد إرباكا خطيرا فاختلط الحابل بالنابل، وانتشرت حالة شاملة من الفوضى والتدافع،ما جعل قطعان الخيل بدورها تضطرب وتندفع هائجة ًلتحطّم السياج وهي في طريقها إلى الفرار، وقد أحدثت الكثير من الجلبة والغوغاء، وتصاعد صهيلها مختلطا مع الضجيج والغبار، الأمر الذي شكل ما يشبه صوتا لهجوم فرقة الخيالة التركية، وهذا ما تخيّله أحد قادة الجيش النمساوي الذي سارع إلى إصدار الأوامر إلى المدفعية بفتح النيران، فسقط الكثير من القتلى جرّاء ذلك. ووسط الظلام الحالك وفقدان السيطرة واختلال النظام مع انعدام التفاهم فيما بين منتسبي العديد من الوحدات بسبب اختلاف اللغة والإرتباك الحاصل، لذلك فقد تفاقم الحال سوءًا وانتشر الإضطراب في صفوف القوات وعمّت الفوضى، حتّى بات الموقف من الخطورة إلى درجة أن كل فوج أصبح يظنّ أن كل من أمامه هو العدوّ، ويتعامل معه على هذا الأساس. لذلك فقد إشتبكت العديد من الوحدات الصديقة،عن طريق الخطأ، في قتال متلاحم مع بعضها البعض مستخدمة مختلف ما كان في متناول يدها من سيوفومن أسلحة نارية. وفي الأثناء اختبأ حشد من الجنود خوفا من الإصابة بالنيران الصديقة، فيما فرّ آخرون في أمواج بشرية هائلة متدافعة إلى خارج الجبهة واندهس على إثر ذلك كثيرون جراء الإزدحام. وفي طريق الهروب، لم يكن ما حدث قد حال دون قيام الجنود بانتهاك حرمات البيوت وارتكاب الكثير من أعمال النهب في القرى المجاورة..
المشهد اللاحق
بعد يومين من الحادثة ،كان قد تكدّس على طول الطريق ما تم التّخلّي عنه من بقايا الأسلحة والخيام والجياد النافقة، وغير ذلك ممّا يمكن أن تخلّفه فلول جيش مهزوم. وتم في الأثناء إحصاء آلاف القتلى إضافة إلى أعداد مماثلة من الجرحى. وهكذا هزم الجيش النمساوي نفسه بنفسه عن طريق الخطأ من دون أن يشتبك مع عدوّه الحقيقي، فيما كُتب النّصر للقوات العثمانية التي كسبت الحرب دون خوض أي قتال ومن دون أن تخسر أيّا من جنودها، وبذلك أمكن للعثمانيين رفع الحصار ودخول قرية "كارانسيبس" دونما أية مقاومة أو عناء..
أمّا الإمبراطور النمساوي "جوزيف الثاني" قائد الحملة، فقد توفّي بعد الحادثة بسنتين.