كثيراً ما تشكّل الحروب مادة دسمة لإملاء الكتب بمختلف القصص الواقعية وبالأحداث الفريدة التي لم يسبق لها مثيل، لكنّ هذا السّرد غالبا ما يكتسي الطابع (التراجيدي) المأساوي، فلا شيء غير الحرب يمكن أن يخلّف أحداثا مليئة بالويلات
والمصائب ولا غرابة في ذلك، فالحرب بطبيعتها تجسّد الجانب الكارثي في مسيرة الحياة اليومية للبشر، وخاصّة لهؤلاء الذين قدّر لهم أن يكونوا من ضحايا لهيبها أو من ذاقوا مرارة تداعياتها.. ولكن مع ذلك فقد يكون خوضها واجباً مقدّساً حالة ما إذا استدعت الضرورة الملحّة ذلك.
في ما يلي من سطور سرد مختصر لمواجهة عسكرية غير متكافئة قدّر للطبيعة أن تكون أحد لاعبيها.
بحلول سنة 1945، أي في السنة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، كان فوج عسكري ياباني مكوّن من حوالي 1000 عسكري يحتل جزيرة (رامري) الواقعة في خليج البنغال قبالة ساحل بورما، جنوب شرق آسيا، وكانت هذه الجزيرة تكتسي أهميّة تعبويّة بالغة.. بين عشية وضحاها فوجئ الجنود بأنهم أصبحوا في وضع بائس وخطير للغاية؛ إذ وجدوا أنفسهم بغتة بين فكّي كماشة القوات البريطانية.. وتيقنوا حينئذ أن لا سبيل للنجاة، إذ باتوا في موقف لا يمكن لهم التعامل معه عسكريّاً بأي وسيلة كانت، وذلك بسبب الحصار المضروب عليهم من عدّة جهات، وقد تمكّن الفيلق البريطاني من إطباق الحصار على تشكيلهم الأقل عدداً وعُدّةً، وأرسل إليهم رسائل واضحة بالإستسلام على الفور. إذن والحالة هذه، لم يعُد هناك من وسيلة أمام اليابانيين للخلاص من المأزق , فهم محاصرون في حين لا يوجد أمامهم إلّا منفذ واحد للتملّص من قبضة عدوّهم، وهو عبور البحيرة التي تقابلهم، عسى أن يوفّرلهم ذلك فرصة سانحة للفرار والوصول إلى القوات الحليفة المرابضة في الجانب الآخر من الجزيرة ... لكنّهم في نفس الوقت يعلمون جيّداً أن هذه البحيرة تكتض بالتماسيح الجائعة... لذا أصبح عليهم اختيار أحد الأمرين؛ إمّا الإستسلام ومواجهة القوات البريطانية، وفي ذلك فناء محقّق، أو أن يتوجّهوا إلى البحيرة ليكونوا عُرضة للوقوع في قبضة التماسيح، وليس ذلك بأحسن حال طبعاً من الخيار الأول أو بعبارة أخرى يتعيّن عليهم أن يختاروا؛ إمّا الوقوع بين فكّي كمّاشة القوات البريطانية أو في أفواه تماسيح جائعة!
وفي نهاية المطاف رفض اليابانيّون جميعاً مبدأ الإستسلام وآثروا اللجوء إلى البحيرة، مع علمهم بأن المصير سيكون خاسرا لا محالة لعدم تكافؤ المواجهة التي تنتظرهم، لكنّهم مع هذا قرّروا استخدام أسلحتهم الرشّاشة في محاولة لمواجهة أسراب التماسيح ابتغاء تشتيتها بما يساعد ربّما في تقليل الخسائر في صفوفهم ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.
كانت الأرض المؤدّية إلى البحيرة موحلة وبها أشجار إستوائية متشابكة وكثيفة ما جعل السير عبرها وعراً وبطيئاً للغاية، وكان أمام الجنود القيام برحلة تستغرق إثني عشر كيلو مترا لاجتياز البحيرة فيما ظلّت القوات البريطانية تراقب المشهد عن كثب ولم تكلّف نفسها عناء ملاحقة أو مهاجمة الجنود والضبّاط اليابانيين، بل تركتهم في حالهم دون مساس، لأنّها تعرف ما ينتظرهم داخل المياه الضّحلة.
وما هو إلّا وقت قصير حتى بدأت مظاهر الإنهاك والجوع والعطش تظهر بوضوح على هؤلاء المنكوبين، وهم يسيرون حاملين تجهيزاتهم السّفرية باتجاه البُحيرة، وكان الإعياء قد أخذ منهم كلّ مأخذ، لا سيما وسط لسعات العناكب السامّة والأفاعي والعقارب ما أدّى إلى سقوط البعض منهم صرعى أو عاجزين.
كانت تماسيح البُحيرة قد استجلبتها رائحة الدّم وضجيج الحرب وظلّت تتربّص منتظرةً ساعة الصفر للإنقضاض على فرائسها، وهي تُراقب المشهد عن بُعد تحت جُنح الظلام. وهنا يُشار إلى أنّ التماسيح تشتهر باشتياقها لحوم البشر،وتصنّف الفئة التي تعيش منها في المياه المالحة على أنّها أضخم أنواع السحالي في الطبيعة، إذ يبلغ معدل وزن الذّكر المتوسط الحجم منها حوالي 750كلج ويتجاوز طوله 6 أمتار، كما لا يمكن للبشر مضارعة سرعتها ولا رشاقتها ولا قوتها الفائقة.
وفيما الوقت يداهمهم، كان الليل قد أرخى سدوله.. حينها تجرّأ اليابانيون ودخلوا غمار البحيرة في رحلة غير مأمونة العواقب على الإطلاق، وما إن وصلوا إلى النقطة الأكثر عمقاًفي المستنقع، حتّى استحال وضعهم إلى موقف مُفزع مُفرط الخطورة!
حينها كانت التماسيح بالمرصاد، فصدح أزيز طلقات الرشاشات العشوائية في جنح الظلام داخل المستنقع ،متناغما مع إيقاع خرير المياه وجلبة التماسيح وهي تفتك بفرائسها وتلتفّ حول أجساد الجنود لتسحق عظامهم وتمضغ لحومهم، في مشهد لم يسبق له مثيل على الإطلاق..بعد ذلك واصلت التماسيح دورها لاستكمال المهمّة واستثمار الفوز بأن تتعقّب حتى الجرحى والعاجزين وغيرعم من الجنود اليابانيين ممّن تقطعت بهم السبل وبقوا عالقين في الوحل وعلى ضفاف البحيرة.
ومع انبلاج الفجر كانت أجزاء من مياه البُحيرة قد تحوّلت إلى اللون الأحمر، وبقيت التماسيح مُسترخية في المياه الضّحلة وهي تذرف الدموع، وقد شبعت كما لم تفعل من قبل،أمّا الوليمة فقد انتهت وانتهى معها كل شيء، فيما جاءت أسراب الغربان لالتقاط ما تركته التماسيح من بقايا اللحم الآدمي.
وفي الصباح دخلت تشكيلات من القوات البريطانية الجزيرة لتتمركز فيها... وبحسب التقارير فإن من بين الألف جندي ياباني تقريباً الذين دخلوا مياه المستنقع تلك الليلة؛ لم ينج منهم سوى 480 فردا، تمكنّوا بشكل أو بآخر من عبور البحيرة. وبحسب ما تناقلته القوات البريطانية التي واكبت أحداث الموقف أنها تمكنت من أسر عشرين جنديا وعلمت منهم تفاصيل هجوم التماسيح الذي تعرضوا له مع زملائهم.
لكن يظل من غير المُتاح معرفة العدد الحقيقي والدقيق للجنود الذين لقوا حتفهم فعليّاً بسبب التماسيح، ذلك أنّه ما من أحد يعلم إلى يومنا هذا حصيلة من هلك جرّاء الإعياء والإنهاك أو بسبب لذعات الأفاعي قبل أن يكون فريسة للتماسيح.
أمّا موسوعة (غينيس) للأرقام القياسية فقد صنّفت هذه الواقعة على أنها أكبر هجوم تنفّذه التماسيح ضد البشر في التاريخ.