مع حلول الستينيات من القرن الماضي، سادت قناعة في أوساط النخب السياسية والعسكرية وحتى على مستوى الرأي العام،أن الحرب العالمية الثالثة لو اندلعت فإنها حتماً ستكون حربا نووية بامتياز, لذا فمن أشد المخاوف التي كان يُتوجس
منهاأثناء الحرب الباردة وأخطرها على الإطلاق، هي التداعيات المتلازمة والتي قد تصل إلى حد تهديد السلامة العامة لسكان المعمورة والإبادة الجماعية للملايين من البشر، ناهيك عن تدمير المحيط البيئي.. وبطبيعة الحال، ما من شيء يمكن أن يفعل هكذا أفاعيل سوىنشوب حرب نووية شاملة. وهنا تبدو المسؤولية جسيمة للغاية، لأن الأمر يتعلق بمصير جموع عريضة من سكان الأرض. وإذتُؤدي مآلاتالتأزّم إلى الطريق المسدود وإلى ما يُشبه الإنتحار الجماعي، فإنالكل سيكون خاسراً ويومئذ لا غالب ولا ومغلوب.. تلك هي السمة المميّزة للحرب النووية. وهنا يجد صانعو القرار أنفسهم إزاء خيارين؛ أولهما توخّي الحكمة وثانيهما الجنوح إلى التهوّر، وقد يعني هذان النقيضان الفرق بين استمرار الحياة أو التحول إلى العدم.
وبالنظر إلى الخصائص الفريدة التي يتّسم بهاالسلاح النووي، ما جعله يرتبط بمسألة مصيرية شاملة بالنسبة للعالم أجمع، لذا فمن المؤكد أن التحلّي بالهدوء والإتّزان النفسي، في التعاطي مع المفاجآت المحيطة به، هو مفتاحالحل لفرصالتصرف المناسب في الوقت الضائع.
وفي المقابل فإن الطيش والإندفاع قد يشكلان الأسباب التي ربما تُفضي إلى ما لا يُحمد عقباه،وإلى كارثةليس أقلها الإطاحة بحضارة مادية بناها الإنسان عبر مسيرته الطويلة.. ذلك هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين النجاة وحدوث المصيبة ولا غرابة فالسلاح النووي، بما ينجم عن استخدامه من تبعات بفعل موجة الصدمة والإشعاع الحراري والإشعاع النافذ، فلا مناص من أنه سيمحق جزءًا من العالم تدميرا وإحراقاً وتلوثا..
إذا أخذنا في اعتبارنا حجم الترسانة النووية التي كانت متوفرة خلال فترة الحرب البادرة لدى القوتين العظميين (الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي)، مضافا إليها شراسة التوتر بين الطرفين في ذلك الوقت، علاوة على اتساع رقعة التحالفات الدولية،فإن هذه المعطيات مجتمعة توحي بأن مجريات الأمور تتّجه إلى الخطر العميق وأن العالم بات على شفا حرب عالمية ثالثة.
ومن بين المشاحنات المتصاعدة التي سادت الموقف في ذلك الوقت، أن الولايات الولايات المتحدة كانت، بحلول سنة 1962، قد نشرت صواريخ نووية في كل من تركيا وإيطاليا وبعض الدول المتاخمة للإتحاد السوفييتي
ومن جانبه دأب الإتحاد السوفييتي، خلال الربع الأخير من ذات السنة، على إنشاء مواقع للصواريخ النووية في كوبا الشيوعية التي لا تبعد عن حدود الولايات المتحدة الأمريكية سوى 90 ميلا، وذلك بموجب اتفاق أبرم مع الزعيم الكوبي "فيدل كاسترو"،وهذا يشير إلى أن هذه الصواريخ بإمكانها إصابة شرق الولايات المتحدة خلال وقت قصير جدا، وهو ما عُرف بـ(أزمة الصواريخ الكوبية)، وبالفعل أصبحت الولايات المتحدة تحت التهديد. اختار الرئيس الأمريكي "جون كنيدي" حينها الإكتفاء بفرض حصار على الجزيرة الكوبية لمنع وصول السفن السوفييتية إليها، وهذا ما تم إعلانه في 22 أكتوبر 1962، مع توجيه إنذار للسوفييت بإزالة صواريخهم من هذه الجزيرة.
وبعد سلسلة من المفاوضات المتوترة بين القوتين العظميين تم التوصل إلى اتفاق لإنهاء الأزمة، حيث وافق الأمريكيون على إزالة صواريخهم من تركيا، مقابل أن يزيل السوفييت صواريخهم من كوبا. غير أن الأمر لم ينته عند هذا الحد، وإنّماعلى صعيد آخر كان هناك وضع خطير يجري حينئذ تحت سطح البحر في منطقة الكاريبي، بالقرب من منطقة الحصار الذي فرضته الحكومة الأمريكية.
ففي تلك الأثناء رصدت البحرية الأمريكية الغواصة السوفييتية (B-59) وهي تجوب البحر الكاريبي، فأخذ البحّارة الأمريكيون يطلقون عليها الصواريخ المائية بشكل متتالي لإجبارها على الخروج إلى سطح الماء من أجل التعرف عليها. وربما من حسن الحظأن البحرية الأمريكية لم تكن على دراية بأن تلك الغواصة تحمل طوربيدات نووية مُدمرة.
ومع كُل صاروخ تُطلقه البحرية الأمريكية كانت الغواصة السوفييتية تهتز على وقع الإنفجار، فاضطر طاقم الغواصة إلى النزول إلى مسافات عميقة في المحيط، ما أدى إلى انقطاع الإتصال بالقيادة العسكرية السوفييتية بموسكو وفي نفس الوقت لم يكن الطاقم على دراية بماهيّة الصواريخ التي تقصف غواصتهم، وظلوا يتساءلون عما إذا كان ما يجري هو بداية لاندلاع حرب مُعلنة من قِبل الأمريكان؟
كان على متن الغواصة مجموعة من رجال البحرية السوفييتية تحت إمرةثلاثة ضباط،أصغرهم سناضابط يُدعى"فاسيلي أرخيبوف" عمره 34 سنة.
وظن آمر الغواصة "فالنتين سفيتسكي" أن الحرب بالفِعل قد اندلعت، ومع فقدان الطاقم الإتصال مع موسكو وانقطاعهم بشكل لم يعد لهم معه القدرة على معرفة ما يدور في العالم الخارجي،بقي آمر الغواصة متوتّراً للغاية وربما كان يشعر بدنو أجله، وأصرّ على إطلاق الطوربيدات النووية ضد البحرية الأمريكية، حيث كان لدى الطاقمأمر مسبق بذلك إذا تعرضوا للهجوم، ولكن لأجل اتخاذ قرار كهذا، كان لا بد منإجماع الضباط الثلاثة الكبار الذين كانوا على مَتنِ الغواصة. ووسط أجواء مليئة بالتوتّر وظروف صعبة بسبب تعطل منظومة التكييف وانخفاض طاقة محرك الغواصة، جرى التصويت على القرار المطروح؛ وافق اثنان من الضباط على إطلاق الطوربيدات النووية على الفور باتجاه البحرية الأمريكية، فيما اعترض الضابط الثالث على قرار الإطلاق، وهو "فاسيلي أرخيبوف" الذي نصح بالتهدئة والتّروّي وأقنع آمر الغواصة بضرورة الصعود إلى سطح الماء وانتظار الأوامر من موسكو، وهو ما حصل بالفعل، حينها توقّفت البحرية الأمريكية عن قصف الغواصة السوفييتية.
وهنا نجد أنفسنا إزاء سؤال مفاده؛ماذا سيحصل لو لم يكن أرخيبوف رصيناً وهادئاً؟ ماذا لو أيد زملاءه ووافق على قرار إطلاق الطوربيدات النووية على الأسطول الأمريكي؟ وهو ما سيعتبره الأمريكيون إعلان حرب، ويقومون بدورهم بالرد العنيف حينها يتأزم الموقف لينزلقإلى الأسوأ، وبالتالي يبدأ الطرفان بالتقاذف المتبادل بالقنابل الذرية والهيدروجينية على نطاق واسع، ما يعني اندلاع حرب نوويّة غير مسبوقة بين الدولتين العظميين، بل بين حلفين يملكان من القوة والعتاد ما هو كفيل بإتلاف أجزاء من العالم، وهو ما سيكون سببا لدمار شامل تُزهق فيه أرواح الملايين من الضحايا.
في هذا السياق يقول الفيلسوف الأمريكي "نعوم تشومسكي":«لو تم القرار فإن ذلك من شأنه أن يُدمر مُعظم أنحاء العالم» ويقول "توماس بلاتو"، مُدير أرشيف الأمن القومي الأمريكي: «لقد أنقذ أرخيبوف العالم» وقال "شليزنجر" مُستشار إدارة جون كينيدي واصفاً تلك اللحظة «بأنها أخطر لحظة في تاريخ البشرية».
المتابعون لمجريات الأحداث خلال تلك الحقبة يدركون تماما أن سكان العالم مدينون بسلامتهم للضابط البحار الروسي فاسيلي أرخيبوف الذي بفضل مزاجه الهادي وطباعه المتوازنة استطاع أن يطفأ شرارة الحرب ويحول دون حدوث كارثة من العيار الثقيل كادت تجتاح العالم.