"قف أيها التاريخ إنا هاهنا" ... التاريخ مرآة للأمم ترى فيها صورتها على ما كانت عليه في كل طور من أطوار حياتها وميزاناً توزن به أعمال الرجال في هيئتها الإجتماعية لتبقى عبر الأجيال وتذكر ومن أحداثه نستخلص العبر التي نستفيد منها في حاضرنا
ونتزود منها لمستقبلنا في أعقاب سقوط الأندلس في يد الأسبان تعرض أبناء المسلمين الذين بقوا هناك للظلم والإضطهاد والتنصير من قبل محاكم التفتيش التي إنتشرت في الأندلس ونتيجة لذلك نزح قسم كبير منهم إلى مدن الشمال الأفريقي في المغرب والجزائر وتونس وليبيا ، وقام مسلمي مدن شمال أفريقيا بتحريض أخوتهم المسلمين الباقين في الأندلس على المقاومة ولمواجهة هذا الخطر الجديد لم يجد الكاردينال جيمنزي دي سنروس أسقف طليطلة وحاكم أقليم الكاستيليا بداً من مطاردتهم حتى مواطنهم وأماكن تواجدهم الجديدة وإحتلال موانيء مدن الشمال الأفريقي الرئيسية والتي كانت طرابلس من أهمها وبما أن الكاردينال كانت محل ثقة الملك فرديناند ملك أسبانيا فقد وافق على تبني مشروعه الطموح بنظرهم والذي سيعمل على تغيير الخارطة السياسية والأقليمية لمنطقة حوض البحر المتوسط وأوكل لتنفيذ ذلك الكونت بيدرو دي نافارو وهو رجل عسكري له تاريخ مشهود.
بإلقاء نظرة عامة على الوضع السائد آنذاك في منطقة البحر الأبيض المتوسط يتبين لنا أن أسبانيا كانت تتبعها كل من نابولي وصقلية ومالطا فيما كان يعرف ذلك بنظام الحاميات وإذا ما تم الإستيلاء على طرابلس فإن ذلك يعني فرض واقع جديد ورؤية جديدة لتقسيم منطقة البحرالمتوسط إلى قسمين شرقي وغربي ومنع القوة العثمانية الصاعدة من السيطرة على القسم الغربي وبالتالي تأكيد سيادة أسبانيا وحلفاؤها على كامل المنطقة وتعطيل نشاط الحملات البحرية المضادة للأسبان وللقوى المسيحية بصفة عامة والتحكم في التجارة البحرية وحركة السفن عبر المنطقة ، إلى جانب الطمع في خيرات طرابلس التي كانت تتناقلها على الدوام سفن التجار والزائرين خاصة وأن طرابلس كانت تعد إحدى أهم وأكبر المراكز البحرية والتجارية آنذاك وثراؤها أشتهر ذكره في الآفاق كما أنها تعتبر نقطة إنطلاق نحو دواخل أفريقيا والسيطرة على التجارة فيها.
أكمل الكونت بدرو دي نافارو الإستعدادات اللوجستية للحملة وغادر إيطاليا معلناً بدء حملته الإستعمارية بإحتلال بعض الموانيء العربية على ساحل المتوسط بدءاً ببجاية ونظراً لتفشي وباء الطاعون فيها غادرها بسرعة وتوجه إلى صقلية للتزود بالماء والمؤن بدلاً من أن يتوجه مباشرة إلى طرابلس وفي ظل هذا الظرف الذي أخر التحرك أبحر الكونت دي نافارو إلى سواحل صقلية ونزل في جزيرة فابيان وهناك تكاملت الإستعدادات وأبحر الكونت دي نافارو متجهاً صوب طرابلس بعد أن أقلع الأسطول من فافينيانا ماراً بجزيرة قوزو المالطية أنضم إليهم هناك الخبير المالطي جوليانو بيلا والذي كان على معرفة وعلم بطرابلس وأهلها ومن المهم التذكير بأن هذه الحملة جرى الإعداد لها بإشراف مباشر من نائب الملك في صقلية وبإعانة مباشرة من الجيوش الصقلية والإيطالية.
كان الأسبان قد جهزوا لغزو طرابلس حملة عسكرية كبيرة تألفت من حوالي 120 قطعة بحرية وعدد 15,000 جندي أسباني و3.000 من الإيطاليين والمالطيين وعدد غير قليل من المرتزقة والمغامرين والباحثين عن المال ومن خلال تلك الإستعدادات الضخمة للحملة يتبين لنا بأن الكونت دي نافارو كان مصراً على إحتلا المدينة مهما كلف الأمر وبأي ثمن .
أقترب الأسطول الأسباني من مدينة طرابلس ورسا على مينائها وكان الكونت بدرو نافارو القائد العام للحملة قد أعد خطة عسكرية لإحتلال مدينة طرابلس تقضي بإنزال بحري مباشر على ساحل المدينة صباح الخميس الموافق 25/7/1510 م وهو اليوم الذي يوافق يوم القديس جاك الرسول بقوة قوامها أربعة آلاف مقاتل ليلاً وتكليفهم بماجمة العرب الليبيين خارج المدينة لمنعهم من تقديم الدعم والمعونة لأخوتهم داخلها ولقطع خطوط الإتصال بينهم في محاولة واضحة لعزل المدينة وحصارها لغرض إنهاكها وإضعاف أية مقاومة يلقاها عند دخوله .
إنتقل لتنفيذ المرحلة الثانية من خطته صباح اليوم التالي بإنزال باقي قوة جيشه ليبدأ الهجوم الرئيسي على طرابلس بقصف مدفعي مباشر على أسوار المدينة نفذته سفن الأسطول الأسباني الراسية قبالة شواطي المدينة وكان من أهم الأهداف التي تم التركيز عليها قصر الحكومة وفي أثناء ذلك إندفع الجيش نحو المدينة تحت غطاء القصف المدفعي وأحتل البرج القائم على باب العرب وأسوار المدينة وتمكن من فتح باب السور ليندفع الجنود الأسبان داخل المدينة ليلقى مقاومة كبيرة وعنيفة من أهل طرابلس في الدفاع عن مدينتهم ، إنحاز المدافعون إلى القصر والجامع الكبير وقاتلوا العدو من شارع إلى شارع في ملحمة وطنية كبيرة أبدوا فيها مقاومة بطولية عنيفة .
قدرعدد القتلى حسب الرواية الأسبانية بحوالي خمسة آلاف فهم من الكثرة بحيث لا تجد موطئاً لقدمك إلا فوق الجثث والأسرى بأكثر من ستة آلاف وكانت الغلبة لجيش الأسبان بالنظر لعدد جيشهم وتجهيزاته وعلى الرغم من ذلك تمكن المدافعون الليبيون من قتل ضابط كبير برتبة كولونيل بحري وثلاثمائة مقاتل وأميرال الأسطول.
وقبل غروب ذلك اليوم سقطت طرابلس في يد الأسبان وحلفاؤهم وأريقت دماء الليبيين في كل بقعة من المدينة في كل طريق وفوق كل بيت حتى صحن الجامع ومحرابه ملئت بالدماء دفاعاً عنها فحيثما توجهت تلقى جثثاً لأطفال صغار ونساء وشيوخ كبار لم يترفق بهم الأسبان ولم يراعوا حرمتهم ولا صغرهم ولا كبرهم ولا عدم مقدرتهم على القتال وأسر شيخ المدينة وأهله وأرسل لاحقاً إلى باليرمو وأرسل الأسرى إلى صقلية وباقي بلدان إيطاليا وبيع أكثرهم بالمزاد العلني امعانا في الاذلال والمهانة.
جاء في رسالة قائد الحملة نافارو لنائب الملك في صقلية وهي بمثابة تقرير يصف فيه ما جرى على أرض طرابلس ما يلي : " لم يخل موضع في المدينة من قتيل ويقدر عدد القتلى من العرب بخمسة آلاف والأسرى بأكثر من ستة آلاف ".
قبل أن تغرب شمس ذلك اليوم الرهيب في تاريخ طرابلس والذي علينا دائماً أن نستذكره ونستحضره ليس فقط للترحم على من قتل في تلك الحملة من أبناء ليبيا البررة بل لنعد أنفسنا وقوتنا إعداداً جيداً ليوم قد يتكرر فالتاريخ يعيد نفسه وبلادنا بموقعها الجيوستراتيجي المتميز ستكون دوماً مستهدفة لمحاولات الإستعمار بشكله الجديد والقديم وبكل ما أوتي من مكر ودهاء.
قبل أن تغرب الشمس كانت طرابلس قد سقطت بيد الأسبان وعصبتهم محققين بذلك حلماً لطالما راودهم في الإستيلاء على مدينة من أهم مدن الساحل الأفريقي الشمالي ولكنهم لم يتحصلوا على شيء مما كانوا يمنون به أنفسهم من الغنائم والثروات لأن الأغنياء من أهل المدينة تمكنوا من نقل ثرواتهم لخارجها قبل بدء الهجوم خاصة وأن أخبار الحملة كانت قد تسربت قبل حركتها بنحو شهر من خلال التجار وأصحاب السفن.
لم يرضخ أهل طرابلس ولم يستكينوا للعدو وأنتهزوا غياب نافارو وأسطوله وأنقضوا على المدينة في محاولة لتحريرها ولكن للأسف لم تنجح العملية فعادوا أدراجهم وتكررت المحاولة مرة ثانية وهذه المرة أستعانوا بأخوتهم في الدواخل وتشكلت بذلك وحدات للمقاومة في الجبل الغربي وغريان وتاجوراء ، كما أرسل إليهم الحسن الحفصي حاكم تونس جيشاً لإعانتهم أنضم إليه المقاتلون الليبيون الذين أعادوا تنظيم أنفسهم وهجموا على المدينة ولكنهم للمرة الثانية لم يتمكنوا من التغلب على الأسبان ، ومع ذلك لم يهناً بال المقاتلين الليبيين وأهل طرابلس وفرضوا حصاراً حول أسوار المدينة في محاولة لإعادتها ، مع أن حال من بداخلها من السكان لايسر فهم يقاسون الأمرين من جراء ممارسات الإحتلال كالزيادة الكبيرة في الضرائب .
إبتهج الأوروبيون بسقوط طرابلس بيد الأسبان وسادت أوساطهم علامات الفرحة التي ظهرت في المظاهرات التي نظمت في بعض مدن إيطاليا وأقام نائب البابا إحتفالات كبيرة وتبادل مرشد جزيرة رودس ودوق البندقية التهاني مع فرديناند ملك أسبانيا وتخليداً لهذا الإنتصار التاريخي على العرب سك نائب الملك في صقلية ميدالية تذكارية بالمناسبة وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مهم يطرح نفسه لما كل ذلك ولما يتبادلون التهاني بهذا الإنتصار ؟
الإجابة هي في أهمية مدينة طرابلس وما تمثله من قيمة مادية وإقتصادية وما يعنيه إحتلالها وإضعافها وسقوطها فهي بوابة أفريقيا الشمالية وأيضا من خلال ما تناولته رسالة قائد الحملة الكونت دي نافارو إلى نائب الملك الأسباني بصقلية والذي كان يتابع الحملة بنفسه ناقلاً إليه خبر سقوطها وإحتلالها " سيدي إن هذه المدينة أكبر في واقعها مما كنت أتصور ، ورغم أن الذين يشيدون بها يتحدثون عنها حديثاً حسناً إلا أني أرى أنهم لم يقولوا إلا نصف الحقيقة ، وبين المدن التي رأيتها في هذا العالم لم أجد مدينة تضاهيها سواء في نظافتها أو تحصيناتها حتى أنها تبدو معها مدينة إمبراطور أكثر منها مدينة لا تنتمي لأي ملك خاص".
وتناقلت الأخبار ذلك الحدث وكرد فعل على ذلك قام الليبيين المقيمين في الأسكندرية بعمل معارض للأسبان وأحرقوا لهم فندقاً في تعبير عن إستيائهم ودعمهم لبني وطنهم وجلدتهم وللأسف العديد من المصادر التاريخية التي نقلت أحداث تلك الحقبة تجاهلت وتناست ذلك ربما عن قصد وربما لا ومن هنا كان واجب السرد التاريخي للأحداث بوجب علينا نقل ذلك الحدث الذي لم ينس فيهم أبناء ليبيا أخوتهم في طرابلس وما تعرضوا له على يد الأسبان ومن معهم.
أرسل القسيس أريكو رابيوس رئيس منظمة فرسان القديس يوحنا إلى فرديناند ملك أسبانيا يهنئه بإحتلال طرابلس وفي أثناء ذلك أتخذ الكونت نافارو طرابلس قاعدة لغزو الشمال الأفريقي وأتجه قاصداً مدينة جربة التونسية بسفنه لإحتلالها.
بدأ الإستعداد المكثف للهجوم على طرابلس من طرف المقاتلين الليبيين خلال سنة 1511م في محاولة لتحريرها من دنس الأسبان ، جرى الإعداد للمحاولة بإعداد وتنسيق جيد من مراكز القيادة في غريان وجنزور وتاجوراء والجبل الغربي وتم حشد عدد 40.000 مقاتل بقيادة الشيخ محمد أبو الحداد وتوجهوا صوب طرابلس وفرضوا عليها حصاراً دام سبعة أشهر ما جعل الكولونيل ديجو دي فلانسيا الحاكم الأسباني لطرابلس يطلب النجدة والمساعدة العاجلة من الكونت دي نافارو قائد الحملة والذي كان يرابط بجزيرة لامبيدوزا الإيطالية ، أستجاب الكونت لطلب الكولونيل وقدم على رأس جيش كبير وبفعل التفوق والفارق الكبير في العدد والعدة نجح فعلاً بصد الهجوم وإفشال الحملة الليبية وبعد سبعة أشهر من الحصار المضروب حول طرابلس توفي الشيخ أبو الحداد وتفرق معظم الجيش المرابط حول المدينة ، ولكن كان لهذه المحاولة أثراً كبيراً في تغيير مجريات الأحداث فالأسبان عرفوا جيداً بأنه لن يهنأ لهم العيش في هذه البلاد وأن أهلها لن يرضوا بالمهانة والذل ، وتركت أيضاً أثراً في نفوس المسيحيين الذين شجعهم الأسبان على الهجرة لطرابلس في محاولة لتغيير ديموغرافيتها وإحلال عناصر سكانية جديدة في المدينة لغرض الإستيطان وتشجيع الهجرة فهم قد سئموا هذه الحياة التي لا آمان فيها على أنفسهم وأموالهم فهم دخلاء مستعمرين وحتى إن طال بقائهم فحتماً سيأتي عليهم يوماً يجدون أنفسهم خارجها .
إقتصر الوجود الأسباني فقط على مدينة طرابلس وقلعتها الشهيرة ولم يستطع أن يتعدى ذلك وكانت المناوشات مستمرة مع الأسبان وأستمرت تلك الحالة فترة عشرون عاماً لم يهنأ فيها الأسبان بإحتلالهم لطرابلس في حين بقت تاجوراء الواقعة على الشرق منها تشكل قاعدة حربية تتمركز بها وتنطلق منها وحدات المقاومة الليبية وبقت طرابلس شوكة في حلقهم فلم يقدورا على تجاوز أسوارها وبقوا داخلها في حصار دائم إلى أن سلموها لفرسان القديس يوحنا لتبدأ أحداث جديدة ومتوالية في تاريخ مدينتنا العريقة.
*بقراءة متأنية للحملة الأسبانية على طرابلس من حيث دوافعها وأسبابها وما جرى خلالها نجد أن هناك نقاطاً مهمة من الممكن أن تتخذ دروساً مستفادة علينا أن نفهمها ونعيد دراستها جيداً ولعل أهمها :
1.نظراً للأهمية الجيوستراتيجية لموقع ليبيا بإعتبارها بوابة أفريقيا الشمالية وقلب الوطن العربي لم تتوقف محاولات إحتلالها والسيطرة عليها على مر التاريخ ، فالموقع الجغرافي لليبيا يفرض تحدياً سياسياً وأقليمياً ودولياً للقيام بدور كبير ضمن دائرة الأحداث والأطماع الإستعمارية القديمة لم تتوقف يوماً ، والأمس لا يختلف كثيراً عن اليوم وقد تعود من جديد لتأخذ شكل حملات إستعمارية فكرية وإقتصادية بمفاهيم جديدة لذا فمراقبة الأحداث حولنا بعين لا تنام ولا تغفل أمر مهم والأخذ بأسباب القوة والحكمة هو سبيلنا لعدم تكرار ذلك.
2.تصدي أبناء طرابلس للحملة ودفاعهم المستميت عنها إلى جانب أبناء المدن الليبية الواقعة حولها والتي تشكلت فيها حركة للمقاومة إلا بوقوفهم جميعاً صفاً واحداً لمواجهة العدوان .
3.كان للإهمال الكبير في تحصين المدينة وإعداد دفاعاتها بشكل قوي دوراً مهماً في سرعة إحتلالها ويرجع ذلك لإهتمام أهلها وشيخها بالتجارة والمال وترك الأخذ بأسباب القوة والإعداد لذلك بمختلف الوسائل مما أثر سلباً على قوتها وهي ليست سيئة ولكنها كانت تحتاج للمزيد من الإهتمام الذي كان ينقصها خاصة وأن أنباء الحملة كانت قد سبقتها إلى المدينة.
4.فشلت الحملة في تحقيق أهدافها للمقاومة الشديدة التي واجهتها من أبناء طرابلس والمدن الليبية المجاورة لها ما يؤكد على أن الإتحاد قوة والمقاومة مشروعة بأية وسيلة طالما بقي العدو جاثماً على أرضك ولعل الحصار الذي ضرب حول أسوار المدينة كان له بالغ الأثر في تدمير معنويات الأسبان وجعلهم لا يفكرون إلا بالنجاة بأنفسهم والفرار بعيداً وهذا ما جعلهم يبتعدون عن المدينة ويسلمونها لفرسان القديس يوحنا.
5.ما يسمونها بالحرب المقدسة ليس لها زمن محدد فقد ظهرت في زماننا هذا بأسماء جديدة والحملة الأسبانية على طرابلس كانت ضمن سلسلة هذه الحروب - ويظهر ذلك في إختيار يوم بدايتها وهو يوم القديس جاك الرسول وهو يوم مقدس عند الأسبان - التي لن تتوقف ، لذا ينبغي الإنتباه لذلك جيداً حتى لو تخفى الغرب وراء ثوب حضارته الجديدة .