بدا اهتمام فرنسا بإقليم فزان مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، وكان هذا الاهتمام ناجماً عن رغبتها في ربط مستعمراتها في تونس والجزائر وغرب أفريقيا بفزان وتشاد باعتبار فزان حلقة وصل وربط بين هذه المناطق بحكم موقعها الجغرافي المهم؛ولهذا كان الفرنسيون لا ينفكون عن التفكير في السيطرة عليها بأية وسيلة، فعمدوا إلى توقيع الاتفاقيات
مع الدول الاستعمارية آنذاك (إيطاليا وبريطانيا)، والتي أعترف بموجبها هذه الدول بأحقية فرنسا في السيطرة على منطقة فزان، وهكذا جاءت الخطوة الأخيرة باحتلال فرنسا لإقليم فزان وجعلها تحت الوصاية الكاملة، وتم ذلك على عدة مراحل بدءاً من: 1942/12/22م حيث تمكنت القوات الفرنسية القادمة من تشاد من التوغل في الأراضي الليبية، واحتلت منطقة الويغ الكبير قادمة من تشاد، ثم واصلت تقدمها نحو مدينة سبها، فبلغت مشارفها واحتلتها يوم 1942/12/27م لتتقدم عقب ذلك إلى منطقة وادي الشاطىء لتعلن يوم 1943/1/4م عن سقوط واحتلال مدينة براك المركز الإداري لوادي الشاطىء، وفي الفترة نفسها تقريباً استسلم موقع القطرون الحصين، وفي يوم 1943/1/8م دخلت القوات الفرنسية مرزق لتكمل بذلك احتلال كامل الإقليم، وتتمركز قيادتها في سبها التي كانت المركز العسكري الإيطالي الرئيس في فزان.
بتاريخ يوم 1943/1/12م أعلن بلاغ عسكري فرنسي أن الوحدات الفرنسية المقاتلة احتلت كل إقليم فزان، ونتج عن ذلك أسر 700 عسكري إيطالي وعدد كبير من المدافع والدبابات والآليات والعربات ومختلف الأسلحة الإيطالية، وأقامت تنظيماً إدارياً وعسكرياً عينت بموجبه العميد ديلانج حاكماً عسكرياً لفزان، وربطتها بإدارة مستمدة من طرق إدارتها في الجزائر بنظم استبدادية تقضي بفصل فزان عن باقي ليبيا ومحاولة إقامة كيان استعماري يعتمد في تواجده على فرنسا لتبقي على فزان تحت سيطرتها لاستغلالها جسراً يصل بين مستعمراتها في الجنوب والغرب.
حاولت فرنسا جاهدة عقب الحرب العالمية الثانية فصل موضوع فزان عن قضية المستعمرات الإيطالية في ليبيا عندما عرضت تلك القضية على المؤتمرات الدولية، كما حاولت إطالة فترة بقائها في فزان بالإبقاء على عناصر إدارتها من أجهزة إدارية عسكرية ومدنية مؤقتة.
ذاق أبناء فزان خلال تلك الفترة البغيضة من تاريخ بلادنا الويلات من الوجود الفرنسي، وتجرعوا كأس الفقر والجوع والحرمان؛ إذ يعتبر الاستعمار الفرنسي من أشد وأقسى المستعمرين معاملة، ولكنهم مع كل ذلك قاوموه بشتى الوسائل، فالمستعمر فرض عليهم تعلم اللغة الفرنسية في محاولة لبث روح الثقافة الفرنسية وإثارة الروح الانفصالية، وبدأ في تسيير حملات عسكرية لنزع السلاح من جميع السكان باعتباره يشكل خطراً على أمنه وتواجده.
برز اسم المجاهد الشيخ عبد القادر بن مسعود الفجيجي ثائراً على هذا الوضع وداعياً للثورة ومقاومة ورفض الوجود الفرنسي في فزان الذي كان جاثماً على صدور أبناء المنطقة مستعمراً لأرضهم وسالباً لحقوقهم.
نشأ الشيخ وسط أسرة كريمة عرفت بالتقوى ودراسة القرآن بمنطقة الفجيج، تعلم فيها وحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم الدينية، ثم انتقل لإتمام دراسته بزاوية ميزران بمدينة طرابلس لتلقي علوم القرآن والفقه على عدة مشائخ، ثم رجع لبلاده ليتولى الإمامة والوعظ في عدة مناطق بفزان.
بدأ الشيخ بحكم عمله كإمام وواعض يحث الناس على مقاومة الفرنسيين وكان رحمه الله يكن لهم كرهاً شديداً، وفي ذات الوقت كان يهييء الناس ويتحين الفرص للثورة عليهم، وكانت تراوده فكرة الهجوم على مقر قيادة القوات الفرنسية في القاهرة بسبها والذي يعرف بالقارة، وهو بناء مشيد على مرتفع له أهمية إستراتيجية كبيرة؛ حيث إنه يشرف على كامل المنطقة المحيطة به، وهو حصن منيع به بئر مياه قديمة منذ زمن الرومان تؤمن السيطرة عليه سهولة المراقبة والرصد لأية تحركات قد تحدث في المنطقة.
بدأ التخطيط العملي للعملية خلال فترة وجود الشيخ في منطقة أبوقدود بوادي الشاطىء حيث عمل إماماً ومعلماً للقرآن الكريم بالبلدة، فاجتمع بأهل البلدة وطرح عليهم الفكرة، وذكرهم بالأوضاع المعيشية السيئة التي يقاسيها أهل فزان وبأنه لا بد من مقاومة الفرنسيين وإعلان الجهاد عليهم حتى ينتهي الظلم والاستبداد، فوجد من يؤيد فكرته ويشجعه على القيام بها، ووجد أيضاً بالمقابل من عارض الفكرة، وبعد فترة قرر الشيخ مغادرة البلدة والعودة إلى بلدته الفجيج، فجمع الناس وأخبرهم بأنه راجع إلى قريته وأنه عازم على تنفيذ فكرته في التصدي للاستعمار الفرنسي، وأن عليهم أن يجدوا شيخاً ليحل محله في الصلاة بهم وتدريس أبنائهم، فتبعه جمع كثير من أبناء البلدة ممن أيدوا فكرته، وما أن وصل إلى قريته حتى أخذ الناس يتوافدون لزيارته والسلام عليه، واستغل الشيخ ذلك وأخذ يحث الناس على مقاومة الاستعمار بمواعظ دينية وسياسية، وكانت زيارته هذه بداية مرحلة التمهيد للثورة وإعداد وتعبئة الناس ضد المستعمر الفرنسي، فتنقل الشيخ بين قرى وبلدات منطقة وادي الآجال ليحرض الناس على المقاومة، وأنهى تلك الجولة باجتماع علني كبير عقده ببلدته أعلن فيه عزمه على الهجوم على مقر قيادة القوات الفرنسية في قاهرة؛ وذلك لإنهاء حكم الاستعمار الفرنسي البغيض، صرح الشيخ بذلك بصوت جهوري علانية أمام الناس دون خوف، وطلب ممن يرغب في مشاركته في هذه العملية مرافقته.
غادر الشيخ بلدته قاصداًً سبها ليبدأ تنفيذ خطته في الهجوم على مقر قيادة القوات الفرنسية في القاهرة يرافقه ثمانية عشر رجلاً ممن عقدوا معه العزم على تنفيذ العملية العسكرية التاريخية، وفي المنطقة الواقعة بين سبها ومنطقة الأبيض أجرى الشيخ ورفاقه تدريباً عملياً على الرماية والقنص بما توفر لهم من أسلحة، وكان من ضمن رفاقه الثوار المجاهد الفرجاني بن سالم الحطماني، وهو معروف بمهارته العالية في القنص والتصويب الدقيق، ويأتي هذا التدريب لاستكمال جاهزية المشاركين في العملية قبل الدخول فيها.
دخلت العملية مرحلة اللاعودة حينما جمع الشيخ رفاقه في زاوية الشيخ العالم عثمان الحضيري ببلدة الجديد بسبها والتي أقام فيها عندما وصل سبها، ووللتأكيد على نيتهم وعدم التخاذل في الامر حلفوا جميعهم على المصحف الشريف بأن لا يخونوا ولا يتراجعوا عن هدفهم مهما جرى وأن يستمروا في المقاومة حتى النصر أو الشهادة.
حدد الشيخ موعد بدء الهجوم على القلعة مقر قيادة القوات الفرنسية والحاكم العسكري لمنطقة فزان عند أول ضوء وتحديداً بعد صلاة الفجر ليوم الخميس الموافق 1949/6/14م، وكانت خطته كالآتي:
بعد أن تحصل الشيخ على الإذن من قيادة القوات الفرنسية بالدخول للقلعة موهماً إياهم بزيارة ضريح الولي عبد الله المدفون بالقرب منها وإحياء تلك الليلة عقب الزيارة بحلقة للذكر في عين المكان، ومع بزوغ الفجر صلى الشيخ برفاقه صلاة الصبح وختم صلاته معلناً ساعة الصفر لبدء تنفيذ العملية، فأمرهم بالتوجه نحو بوابة القلعة الرئيسية والاستيلاء عليها.
توجه رفاقه الثوار المؤمنون بقضيتهم نحو البوابة ببنادقهم القليلة العدد وأسلحتهم البيضاء من سيوف وسكاكين أخفوها جيداً عن أعين الفرنسيين عند دخولهم منطقة القلعة، كانت أسلحة الثوار لا تزيد عن أربعة بنادق إيطالية قديمة وعدداً من السيوف والسكاكين وكان الشيخ قد طلب من أحد الحدادين من سكان الجديد تصنيعها لهم بسرية تامة خلال فترة التجهيز للعملية.
بدأت العملية باقتحام البوابة الرئيسية لمعسكر القلعة والتعامل بقوة مع افراد الحرس، وعند مقاومة أحد الجنود الفرنسيين المكلفين بالحراسة أردوه قتيلاً على الفور بحد السيف؛ وذلك لضمان مباغتة العدو، وتم الاستيلاء على بندقيته، وتقدم الثوار داخل القلعة سريعاً مكبرين مهللين على حين غفلة من الجنود الفرنسيين الذين كان معظمهم لا يزال غارقاً في النوم، صعد الثوار إلى القلعة وأنزلوا العلم الفرنسي، وتم تمزيقه وقطعت أسلاك أجهزة الاتصال السلكي لعزل القلعة عن الخارج خشية أن يقوم الجنود بطلب النجدة، وكلما ظهر أحد الجنود الفرنسيين يتم التعامل معه وقتله وسط التكبير والتهليل التي تردد صداها في المكان، دب الفزع والخوف والهلع في نفوس الفرنسيين، ولم تعد للضباط أية سيطرة على جنودهم، وبدأ الجميع في الفرار من القلعة تحت وابل من نيران الثوار، ومن شدة خوف الجنود الفرنسيين قفز بعضهم من أعلى القلعة متدحرجاً على التلة، ومات البعض منهم نتيجة لذلك، وجرح آخرون من بينهم قائد القلعة الذي ألقى بنفسه من نافذة حجرته فتكسرت عظامه وتعرض للجروح والرضوض في جسمه.
وهكذا تم احتلال القلعة والسيطرة عليها سريعاً، وبقي الشيخ داخل القلعة، لعدة ساعات والقادة الفرنسيون لا يدرون كيف يتصرفون حيال الأمر من وقع المفاجأة عليهم غير أن الموقف تبدل فجأة عندما صعد العساكر الجزائريون ويطلق عليهم محلياً الشعانبة الذين يعملون مع القوات الفرنسية، وكان معهم بعض الليبيين المجندين للقلعة وهم يكبرون ويهللون، فظن الشيخ ورفاقه أن هؤلاء أتوا لنصرتهم، ولكنهم ما أن تمركزوا في أماكنهم حتى اشتبكوا مع الثوار، ووجهوا لهم رصاص الغدر والخيانة والعمالة، فتغيرت الموازين وسقطت القلعة مجدداً بيد الفرنسيين بفعل الخديعة، وسيطروا عليها ثانية سيطرة كاملة، استشهد خلال العملية الشيخ عبد القادر ابن مسعود الفجيجي مع خمسين من رجالات وأبطال فزان في آخر موقعة من تاريخ الجهاد الليبي قبل الاستقلال، وقبض على باقي المجموعة التي كانت، وسقط حوالي سبعة قتلى من الجنود الفرنسيين.
عمد الفرنسيون إلى التمثيل بالمجاهدين الخمسين بصورة همجية منكرة، فربطوهم بالحبال من أرجلهم، وجروهم على الأرض ثم جمعوهم وصبوا عليهم الوقود وأضرموا فيهم النار وأحرقوا جثثهم الطاهرة النقية التي أبت العيش في ذل ومهانة، وتصدت للمستعمرين في عملية اقتحام جريئة هزت هيبتهم وأفقدتهم أعصابهم.
كانت ردة فعل القوات الفرنسية همجية وقوية، فأرسلت جنودهها في دوريات عسكرية لإرهاب السكان، وأخذت تتتبع خيوط العملية بواسطة عملائها، وجمعت كل من تربطهم علاقة بالثوار في سبها، وحكمت على بعضهم بالسجن داخل القلعة، وفرضت على الكثيرين الإقامة الجبرية داخل حدود مدينة سبها، وقصفت قرية أبوقدود في وادي الشاطيء بالمدفعية، وحاصرت بلدة الفجيج مسقط رأس الشيخ الشهيد وبلدة تكركيبة باعتبار أن معظم الشهداء منها، ومورست على سكانها ممارسات اتسمت بالعسف والظلم.
الدروس المستفادة من العملية:
1. كانت عملية قاهرة سبها آخر موقعة ضد المستعمر الفرنسي في فزان، وهي أيضاً تعتبر آخر عملية عسكرية مقاومة للمستعمرين في تاريخ ليبيا الحديث قبل الاستقلال جسد فيها الشيخ عبد القادر بن مسعود الفجيجي ورفاقه بحروف من نور مقاومة ورفض الليبيين للمستعمر، وبقيت في ذاكرة التاريخ ساطعة تعبر عن العزة والكرامة والشرف التي هي من صفات هذا الشعب الأبي.
2. نفذ الشيخ ورفاقه عملية إغارة ناجحة جداً استخدم فيها المكر والخداع بطريقة مميزة، وقام فيها بحساب الوقت وتنظيم وإدارة العملية بشكل جيد وغير مسبوق على الرغم من أنه لم يتلق تعليماً عسكرياً إلا أنه اختار الوقت المناسب الذي يعد عاملاً مهماً لنجاح عمليات الإغارة لبدء تنفيذ العملية مع أول ضوء ما يعتبر تعبوياً من أنسب الأوقات لتنفيذ عمليات الإغارة والهجوم على العدو.
3. أهمية التخطيط المسبق والجيد للعملية، فدقة التخطيط كان لها الأثر الكبير في نجاح العملية حيث قام الشيخ الشهيد بدراسة العملية لفترة طويلة قبل البدء بالتنفيذ.
4. قدم لنا الشيخ الشهيد دروساًً في مفهوم الوطنية والتضحية لأجل الوطن وبذل النفس من أجله، فهو لم يكتم عداءه يوماً للسلطات الفرنسية، وكان يصرح بذلك علناً ويدعو للثورة عليهم وقتالهم.
5. بالرغم من أن السلاح الذي كان بيد المجاهدين قليلاً وقديماً الا أن الشيخ الفجيجي استعاض عن ذلك بسلاح أهم هو الروح المعنوية العالية التي كان يتمتع بها هو ورفاقه حيث قام بتعبئة المجاهدين وحثهم على الجهاد ومقاومة المحتل ونجح في ذلك .
6. جهاد الشيخ ورفاقه الابرار اسس لعمل سياسي كان له الاثر الكبير في فك ارتباط فزان بالمستعمر الفرنسي وهو بكل فخر يستحق ان نطلق عليه شيخ مجاهدي فزان.