تقول فكرة المقال إن ليبيا أسهمت إسهاماً إيجابياً في إرساء العلاقات الدولية في العصر الحديث ، هذا يناقض-ومن ثم يلغي- ما تدّعيه بعض الدراسات الأوروبية من أن بلادنا كانت إمارة خارج القانون الدّولي تمارس القرصنة، لكن كيف ندّلل على ما سبق قوله : إيجابية ليبيا في العلاقات الدّولية؟
يأتي هذا بدراسة تاريخ العلاقات الخارجية الليبية، خاصة الجزئية المتعلقة بالمصطلحات والمفاهيم السّائدة آنذاك وحجم المساهمة الليبية في إيجادها والعمل بمقتضاها .
التحليل الأولي بيّن نتائج جيّدة
أولاً- شاركت ليبيا في إدخال مصطلحات ومفاهيم جديدة في العلاقات الدّولية من بينها:
أ- خلال ستينات القرن السابع عشر سعت ليبيا (مع دول أخرى) إلى إبطال فكرة (الدبلوماسية السّرية)، وإحلال (مواثيق السلام العلنية) محلها، نجح هذا السعي وعقدت ليبيا معاهدات عدة مع دول أخرى عبر هذا الأسلوب: كان الوزير عبد الرحمن البديري يرأس فريق محادثاتها، وأصبحت هذه الفكرة ضمن النقاط (14) للرئيس الأمريكي نيلسون التي أصدرها في 12/8/ 1918.
ب- أدخلت ليبيا مع دول أخرى فكرة (التعامل بالمثل) بين الدّول، ويعتقد بعض المؤرخين (فولايان مثلاً) أن أحد أسباب نشوب الحرب بين ليبيا وبعض الدول، مثل نابولي والبندقية وصقلية وإسبانيا والولايات المتحدة هو عدم فهم إدارات تلك الدول للأهمية البالغة التي كانت تضعها طرابلس على تلك الفكرة.
ج- أدخلت ليبيا ومارست فكرة (التحدث مباشرة إلى ممثلي الشعب المراد معالجة بعض القضايا مع حكومته)، ومثال ذلك خطاب السفير الأوروبي للإيالة حسونة الدغيس-الذي صار وزير خارجية ليبيا- أمام مجلس العموم البريطاني في شهر يونيو 1822 للوصول إلى تفاهم مشترك بشأن محاولات إبطال تجارة الرقيق، فاقترح الوزير الليبي مفهومين جديدين لا يزالان قيد الاستعمال هما: تجفيف المنابع، والتعويضات الاقتصادية لعلاج الظاهرة.
ثانياً- أدخلت ليبيا أدوات وطرقاً جديدة في عقد الاتفاقيات الدولية، من بينها عدم إدخال الاختلاف الدّيني، واستخدامه في تلك الاتفاقيات، والشواهد في هذا عديدة، ولكن نذكر مثالاً واحداً هنا: المعاهدة الليبية الأمريكية الموافق عليها بالإجماع من قبل مجلس الشيوخ في 6/10/ 1797 شملت المعاهدة بنداً أخد الرقم (11) يشترط الأمر صراحة، يقول السفير الأمريكي جول بارلو الذي كان يرأس الطرف الأمريكي في معاهدة 1797 عن هذا البند: (لقد وضع هذا البند بناء على إصرار المسؤولين في طرابلس الدين أرادوا بعض التأكيد بأن الولايات المتحدة لن تستعمل الدين حجة لعداوات مستقبلية، ربما نظر قادة طرابلس إلى الولايات المتحدة الأمريكية مجرد امتداد لبريطانيا (المسيحية)، وتوقعوا توترات مماثلة حول الدين)، ويضيف المؤرخ الأمريكي بوب سميث: (في الولايات المتحدة لا تزال المعاهدة- شكراً لهذه المادة أو البند - مركز اهتمام لخلاف دام أكثر من قرنين من الزمن.... أشعلت الاتفاقية (200) عام من الجدل (الأمريكي-الأمريكي) بين الجمهوريين والديمقراطيين: الأول يرون الولايات المتحدة أمة مسيحية (الديمقراطيون)، والآخرون ينادون بفصل الدولة عن الكنيسة.
كذلك كانت الحروب الأسلوب الذي تتبعه الأقوام لحل مشاكلها، من بين تلك الحروب على سبيل المثال الحروب الدينية حروب الثلاثين عاماً (1618-1648)، فقد دفعت ليبيا وغيرها من البلدان في ستينات القرن السابع عشر إلى فض المنازعات سلمياً، فتم تبني (دبلوماسية المؤتمرات) وسيلة لمعالجة المشاكل التي تحدث بين الدول.
وكانت اتفاقية الملح في عام 1763 بين ليبيا والبندقية التي تولى وزير خارجية ليبيا (البديري) ومجلس الحكماء الخمس في جمهورية البندقية المحادثات حولها عبر دبلوماسية المؤتمرات وفض المنازعات سلمياً والوساطة، وهو أسلوب من أساليب فض المنازعات بالطرق السلمية.
لا تزال تلك المصطلحات والمفاهيم والأدوات محل استخدام حتى اليوم في العلاقات الدولية، ولكن لا أحد يشير إلى المساهمة الليبية.
أما عن الأسباب وراء عدم الإشارة إلى هذه المساهمة الليبية فهي متعددة، وسنتعرض لذكرها كما يلي:
أولاً- العادة التي درج عليها الأوربيون، ألا وهي إلغاء إسهام الآخرين في التاريخ الإنساني، والنظر إلى هذا الأخير على أنه انعكاس للتاريخ الأوروبي.
ثانياً- خوف السلطة الإيطالية من التاريخ الليبي، فصادر جنودها الأرشيف الليبي في فبراير 1912 طبقاً لإفادة من القنصل الأمريكي جان وود في طرابلس آنذاك، وشملت المصادرة ما وقع تحت أيديهم من وثائق ومستندات عن الفترة قبل 1835. ثالثاً- تولى الأدباء الليبيون كتابة التاريخ الليبي بعد الاستقلال، فجاء ما كتبوه أدباً وليس تاريخاً.
رابعاً- أما السلطة العسكرية زمن الطاغية فقد خافت التاريخ إلى حد وصل أن أبعدته من مناهج البنية التعليمية الجديدة، كما ألغت عملياً إمكانية تأهيل مؤرخين ليبيين يجيدون لغات مصادر التاريخ الليبي (اللغات العثمانية والعربية والإنجليزية والإيطالية والفرنسية ...).
هل بعد كل هذا يستغرب القارئ من طمس إسهام ليبيا في العلاقات الدولية وفي غيرها؟