نظرا لما اشتهر به من بطولات حقيقية وإنجازات مشهودة غيرت وجه التاريخ، اعتبر من الشخصيات المتميزة في التاريخ الإسلامي، فهو ذلك القائد الجدير بالتقدير الخليق بالإشادة والإعتزاز لما عرف عنه من استقامة وصدق وأمانة، إنه صلاح الدين يوسف بن أيوب الملقب بالملك الناصر، ينحدر من أصل كردي، ولد في تكريت سنة 1137 م وتوفي في دمشق سنة 1193 م.
نشأ صلاح الدين في أجواء مباركة، حيث حفظ القرآن منذ نعومة أظفاره وتعلم الحديث الشريف ودرس اللغة العربية والأدب والفقه، وكان ولوعا بالفروسية وتدرب على فنون القتال حتى أتقنها. وقد إشتهر بالشجاعة والإقدام.أطاح صلاح الدين بحكم الفاطميين ومذهبهم الشيعي في مصر سنة 1174 م، ثم أسس الدولة الأيوبية في مصر، وتولى السلطة في مصر والشام. إقترن إسم صلاح الدين بالحروب الصليبية نظرا للدور الذي لعبه في تحرير ديار الإسلام من الإحتلال الصليبي الذي دام زهاء تسعين عاما اعتبارا من سنة 1187 م. والحروب الصليبية هي سلسلة من الحملات العسكرية التي شنها الأوروبيون على ديار الاسلام، وعرفت تلك الحملات بهذه التسمية نسبة إلى الشعار الذي رفعته وهو الصليب. وتتلخص الدوافع التي جاءت على خلفيتها هذه الحروب في دوافع اجتماعية واقتصادية ودينية. وكان الأوروبيون حينئذ قد تمكنوا من تحقيق مأربهم في الإستيلاء على تلك الديار مستفيدين من الأوضاع السائدة في العالم الإسلامي من تفكك وضعف بسبب انتشار الفتن والصراع على السلطان والنفوذ.. وظلت جيوش الصليبيين تعيث فسادا في ديار الإسلام، وحينما دخل جنود الإحتلال بيت المقدس قتلوا سبعين ألفا من أهلها. ثم أنزلوا بالمسجد وسائر المقدسات الإسلامية في المدينة الكثير من التدنيس ومظاهر الطمس والتشويه طيلة فترة الإحتلال. أخذ صلاح الدين على عاتقه واجب مواصلة المقاومة ضد الصليبيين وتحرير بلاد المشرق الإسلامي من إحتلالهم الغاشم، لذلك فقد اعتبرت تلك الفترة من أبرز صفحات تاريخ الشرق الأدنى في العصور الوسطى، فالظروف التي هيأها هذا القائد حينذاك، وفي مقدمتها توحيد الولايات الإسلامية المستولى عليها، قد أفضت إلى وضع أصبح معه رسم الخطة المفصلة لدحر المحتلين أمرا ممكنا. وعندما عقد صلاح الدين العزم على تحقيق الهدف المنشود شحذ الهمم وحث الناس على المشاركة في الجهاد ضد المحتلين، فتمّت الإستجابة وتوالت جموع المتطوعين تصل من مصر والشام وشتى ربوع الجزيرة العربية للإنضمام للجيش والإستعداد مواجهة الإحتلال الصليبي، وكانت الترتيبات حينئذ قد اتخذت كما يلزم لتدريب الجند وإعداد العدة وتجهيز العتاد..
خاض صلاح الدين حربا طويلة حامية الوطيس ضد الصليبيين وكان خلال ذلك متحليا بقوة النفس والثبات والصبر، فظل هو وقادته وجنوده يمارسون الكر والفر فاتحين البلاد بعد البلاد، والمدينة تلو المدينة، بدءا ببيروت ومرورا بصيدا إلى عكا وعسقلان وغزة ونابلس وهكذا.. إلى أن تهيّأت الظروف المناسبة لخوض المعركة الثانية بعد معركة حطين، ألا وهي معركة تحرير بيت المقدس. في خضم التحضير لهذه المعركة توافد المسلمون للإنضمام للجيش تحت قيادة صلاح الدين لينالوا شرف المشاركة في تحرير القدس ودحر المحتلين وهو شرف عظيم وفرض واجب، من منطلق أن الدين الإسلامي الحنيف يدعو إلى الجهاد من أجل التصدّي للعدوان واسترداد الحقوق المغتصبة، في حين يحرّم ما دون ذلك من مظاهر الإعتداء على الغير أو ممارسة أي شكل من أشكال الظلم ضد الآخرين. وعلى العموم كانت خطة تحرير بيت المقدس تتلخص أولا في محاصرة المدينة التي جرى تحصينها من قبل جيوش الإحتلال، أما المرحلة الثانية فتتجسّد في القيام بعملية اختراق يشنها جيش التحرير لاقتحام المدينة، لاستعادتها من المغتصبين. وكان أن سارت الأمور على هذه الوتيرة ووفقا للخطة المرسومة، حيث أنزل الجيش بقيادة صلاح الدين هزيمة ساحقة بالمعتدين حتى أجبرهم على الإستسلام، وقد تمكن هو أتباعه من دخول المدينة والسيطرة عليها بتاريخ 27 رجب سنة 583 للهجرة/1187 ه، وذلك بعد أن أيّدهم الله بنصره المبين، حيث انتصر الحق وزهق الباطل. وفي هذه الأثناء قصد قادة الصليبيين صلاح الدين ملتمسين العفو، فما كان منه إلا التصرف بما تمليه عليه أخلاق الإسلام من حلم وعفو، وبما يعكس مبادئ العقيدة العسكرية الإسلامية والفضائل الحربية التي تربّى عليها، وهي مبادئ تولي الإعتبارات الإنسانية والأدبية والحقوقية القدر الأنسب من الحرص والعناية، فلم يعمد إلى ممارسة أي وسيلة من وسائل الإنتقام ضدهم أو المساس بدور عبادتهم، بل خيّر هؤلاء بين العودة إلى بلدانهم أو العيش بسلام تحت رعاية الإسلام وسماحته.. وغدت تلك المواقف محل إعجاب، حيث أشاد بها النزهاء من الأدباء والمؤرخين في أوروبا، وظلوا يسلطون الأضواء عليها لجهة كونها سياسة ناعمة وأسلوبا متسامحا من شأنه أن يعمل على ترسيخ القيم النبيلة والمثل العليا في نفوس الناس. كانت تلك نبذة عابرة من تاريخ صلاح الدين، الذي اشتهر بالحنكة والفضيلة وسطر صفحات لامعة في سجل التاريخ الإسلامي. وإذ لا يمكن تناول موضوع من هذا القبيل في هكذا عجالة ولكن حسبنا أن نكون قد قدمنا ولو لمحة وجيزة عن سيرة هذا البطل.