الجزء الأول ...عندما قامت أول انتخابات برلمانية بالبلاد سنة 1952 م، وقعت أحداث دامية في كل من طرابلس وبنغازي وصبراته والعجيلات وترهونة سقط على أثرها عدد من أبناء الشعب الليبي برصاص رجال الأمن وأبعدت قيادات الأحزاب السياسية إلى خارج ليبيا وصدر قرار بحل جميع الأحزاب والجمعيات وحظر تشكيلها فانتهت بذلك مرحلة من أهم المراحل في تاريخ العمل السياسي المنظم والمعلن في ليبيا،
ومهدت الطريق لتكوين التنظيمات والحركات السرية في البلاد ومنها تلك التي تكونت داخل الجيش الليبي والتي سوف تعرض هذه المقالة لأبرزها والخلفيات التاريخية والعوامل التي ساهمت في تكوينها.خلفية تاريخية:
تعرضت ليبيا كأي بلد من بلدان العالم الثالث إلى ظروف سيئة على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي فلم تعرف ليبيا الاستقرار إلا لفترات محدودة، فكانت دائماً معبراً للغزاة ومسرحاً لصراعاتهم، كما شهدت ليبيا حقباً طويلة من المجاعة والقحط وانتشار الأوبئة والأمراض المستوطنة وحرمان أبنائها من التعليم.
كل ذلك خلق ظروفاً ساهمت في تخلف التجربة السياسية ومفهوم العمل السياسي، وكان هَم أغلب التجمعات السياسية التي ظهرت في فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات تحقيق الاستقلال بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية دون النظر إلى ما بعد الاستقلال، الأمر الذي جعل من السهل على النظام الملكي أن يقضي على هذه التجمعات ويخلي الساحة منها نهائياً.
وبعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية وطرد قوات المحور منها شهدت الساحة الليبية صراعاً سياسياً متدفقاً زاخراً يسعى للخلاص من المستعمر متطلعاً ليوم التحرير وتحقيق الاستقلال ووحدة البلاد؛ وعاشت ليبيا جواً من التفاعل الديمقراطي والعطاء الفكري والسياسي، شكل رصيداً مشرفاً لحركة النضال الليبي على امتداد تاريخه.
وتوج هذا الجهد باستقلال ليبيا يوم 24 ديسمبر 1951م، وأقيمت دولة دستورية مستقلة ذات سيادة تكفل إقامة العدالة والحرية والمساواة والخير للجميع.
إلا أن هذه النوايا الطيبة والأماني الحسنة التي طالما انتظرها أبناء الشعب الليبي وكافح في سبيلها سرعان ما اصطدمت بتركيبة المجتمع الليبي التي اعتمدت على التوازنات القبلية والارتباط العشائري والتبعية الاقتصادية والسياسية.
وعندما قامت أول انتخابات برلمانية عايش الضباط الذين أرسلوا في بعثات عسكرية إلى العراق ومصر أحداثاً عظيمة هزت الوطن العربي من أعماقه، وتفتحت أفكارهم على مختلف التيارات السياسية التي كانت تعج بها المنطقة ... وعاد هؤلاء إلى ليبيا، وشرعو في نشر تلك الأفكار والمفاهيم داخل المؤسسة العسكرية، ساعدهم في ذلك المناخ السياسي العام في ليبيا.
الصورة من اليمين (رائد/ يوسف فلفل، مقدم/ سليمان عمر خليفة، مقدم/ مصطفى القريتلي، عقيد/ محي الدين المسعودي آمر صنف المدفعية، عقيد/مصطفى القويري ، مقدم/ طارق السراج، رائد/ عبد السلام عزالدين المدني.
البلاد سنة 1952م، وقعت أحداث دامية في كل من طرابلس وبنغازي وصبراته والعجيلات وترهونة، سقط على أثرها عدد من أبناء الشعب الليبي برصاص رجال الأمن، وأبعدت أو لجأت بعض قيادات الأحزاب السياسية إلى خارج الوطن، إلى مصر أو تركيا وتونس، نذكر منهم الشيخ الطاهر الزاوي، مصطفى بن عامر، أحمد زارم، كمال فرحات، بشير السعداوي، وعدد آخر من القيادات الحزبية، كما صدر على إثر ذلك قرار بحل جميع الأحزاب والجمعيات وحظر تشكيلها، فانتهت بذلك مرحلة من أهم المراحل في تاريخ العمل السياسي المنظم والمعلن في ليبيا، ومهدت الطريق لتكوين التنظيمات والحركات السرية في البلاد ومنها تلك التي تكونت داخل المؤسسة العسكرية والتي نحن بصددها في هذا المقال.
بداية تشكيل القوة العسكرية:
عندما أعلنت إيطاليا الحرب سنة 1940م، على بريطانيا وكانت ليبيا تحت الإحتلال الإيطالي، ألفت قوة من الليبيين الموجودين بالمهجر (مصر) أطلق عليها إسم (القوة العربية الليبية) وصل كادرها إلى أربعة كتائب مشاة وأسندت قيادتها إلى كولونيل من الجيش البريطاني يدعى (بروميللو) وعاونته مجموعة من الشباب الليبي في المهجر ممن أسندت لهم بعد الاستقلال مهمة تأسيس وقيادة قوات الأمن (دفاع برقه) والجيش الليبي.
وقد شاركت هذه القوة في معارك الصحراء مع قوات (ويفل) وفي عمليات الدفاع عن مدينة طبرق أثناء حصارها الطويل من قبل قوات (رومل) سنة 1941م، كما شاركت عناصر منها في مفارز العمليات الصحراوية التي كانت تعمل خلف الخطوط الإيطالية، وفي فبراير 1942م، ساهمت هذه القوة في الهجوم الكبير الذي قام به الحلفاء على قوات المحور حيث تم دحرها وطردها من (برقة) وطرابلس.
وعقب الاستقلال مباشرة صدر مرسوم ملكي بتشكيل الجيش، وأسندت مهام تأسيسه إلى ثلة من الضباط الذين ساهموا في القوة العربية الليبية، وكان على رأسهم اللواء السنوسي لطيوش واللواء نوري الصديق إسماعيل والعقيد جبريل صالح خليفة، والعقيد مصطفى القويري، الذين رفعوا إلى الرتب المذكورة بعد الأستقلال. ودرءاً للمخاطر التي أعقبت تأسس بعض الجيوش العربية في تلك الآونة كالأردن مثلاً حيث سيطر (جلوب باشا) على الجيش سيطرة كاملة، تقرر الاستعانة بضباط من الجيش العراقي ومن الجيش التركي من ذوي الأصول الليبية، لإعداد وتدريب كوادر الجيش الليبي، فكان من العراق اللواء الركن عادل أحمد راغب والعقيد الركن داوود سليمان الجنابي والمقدم كاظم مرهون الغتلي وصالح شلال وغيرهم، ومن تركيا العقيد عمران الجاظرة وهو من عائلة الجاظرة الموجودة بدرنة، وتأسست أول كتائب الجيش الليبي وهي: (كتيبة إدريس الأول) (وكتيبة عمر المختار) (والكتيبة الثالثة).
وبموجب الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت مع الدول الشقيقة والصديقة كالمعاهدة البريطانية 29 يولية 1953م، والأمريكية في سبتمبر 1954م، أرسلت البعثة الأولى إلى الكلية الحربية المصرية 1951م، وألحقت بها بعثة ثانية في بداية سنة 1952م، ولكن الحكومة الليبية قررت سحبها في بداية 1953م، بعد قيام الثورة المصرية في 23 يوليو 1952م، خوفاً من المد الثوري الناصري وتحولت وجهة البعثات العسكرية إلى المملكة العراقية وتركيا، وفي بداية الستينات أرسلت البعثات العسكرية إلى اليونان وأمريكا وبريطانيا، وتم إنشاء سلاح الطيران وسلاح البحرية، وأنشئت مقرات الأركان التابعة لها.
عوامل ومؤثرات:
لقد عاصر الضباط الذين أرسلوا في بعثات عسكرية لكل من مصر والعراق في الخمسينيات أحداثاً عظيمة هزت الوطن العربي من أعماقه، مثل قيام ثورة 23 يوليه 1952م، في مصر، التي أطاحت بنظام الملك (فاروق) وثورة العراق التي أطاحت بنظام الملك (فيصل) في 14 تموز يوليه 1958م، كما أمكن لهم أن يعايشوا عن كثب الانقلابات والانقلابات المضادة بالعراق كثورة (الشواف) بالموصل 1959، وشاهدوا بأم أعينهم ما صاحبها من حمامات دم وإعدامات بالجملة واعتقالات واسعة في صفوف العسكريين، مثل محكمة (المهداوي) التي اهتز ضمير الأمة العربية لفضائعها وسرعة صدور أحكامها.
لقد عايش هؤلاء الضباط تلك الأجواء الساخنة المليئة بالتحديات للاستعمار وأعوانه، وتفتحت أفكارهم على مختلف التيارات السياسية التي كانت تعج بها المنطقة العربية، مما كان له الأثر العميق في بلورة أفكارهم، شأنهم في ذلك، شأن الشباب الليبي الذي أوفد في بعثات دراسية إلى مصر والعراق وبيروت.
وعاد هؤلاء إلى ليبيا، قبل نهاية الخمسينيات، وانتشروا داخل كتائب وقطاعات الجيش المختلفة، وكان أهمها (الكلية العسكرية الملكية) ببنغازي (التي لعبت دوراً مهماً وحاسماً في تغيير دفة الأوضاع برمتها في ليبيا فيما بعد)، وشرعوا في نشر تلك الأفكار والمفاهيم داخل المؤسسة العسكرية، ساعدهم في ذلك المناخ السياسي العام في ليبيا وبرز التيار القومي في المنطقة العربية والإعلام المصري الصاخب المحرض.