كان مليئاً بأخبار ذلك اليوم: السفينة ديانا (Diana) تتأهب للسفر إلى ميناء ليفربول، والتّاجر المحلي جان سافاجJohn Savage يعلن عن نبيذ فرنسي عالي الجودة، ثم عن اللّوز والخل بهدف البيع. إدوارد فوكس Edward Fox كان شغوفاً بأن يعلن في مزاد علني عن خدمات خادم بعقد رسمي وفق عقد استخدام، وصف الخادم بأنه "طباخ محتمل وطيب" لا تزال لديه تسع سنوات في تعاقده.
جرائد فترة ما بعد حرب الثورة (الأمريكية) طبعت ونشرت قوانين الكونجرس، وبلاغات ووثائق حكومية أخرى، ومن بين البرقيات من واشنطن ذلك اليوم كانت أن مجلس الشيوخ والرئيس جان آدمز وافقوا على معاهدة سلام وصداقة مع دولة شمال أفريقية، طرابلس.. الصحيفة نشرت المعاهدة المتكونة من (12) مادة كاملة.
معظم المواد الإثني عشر تعاملت مع أمور وقضايا تجارية وإجراءات تخص التجارة البحرية، لكن هنالك فقرة مدونة بين المواني والحمولة والرسوم، فقرة وقفت بارزة، المادة (11) ؛ تقرأ هذه المادة على النحو التالي: "حيث أن حكومة الولايات المتحدة لم تقم في أي معنى على الديانة المسيحية، وحيث أنها لا تحمل أي مظهر من مظاهر العداء ضدّ قوانين أو دين أو سلامة المسلمين- وحيث أن الولايات المتحدة المذكورة لم تدخل في أي حرب أو عمل عدواني ضد أمة محمدية (كذا) ، تعلن الأطراف (المعنية) بأن لا عذر أو حجة من أفكار وأراء دينية يمكن أن تبرز سوف تنتج أبداً انقطاعاً للتوافق بين البلدين".
وافق مجلس الشيوخ على المعاهدة مع طرابلس بالإجماع في 10يونيو /1797م، سوف يختفي ويندثر الحديث عن هذه المعاهدة مثل معظم تلك المعاهدات المبكرة لولا هذا البند أو المادة رقم(11).. شكراً لهذه المادة، فإن المعاهدة لا تزال مركز اهتمام لخلاف دام أكثر من قرنين من الزمن.
برزت هذه المعاهدة بوضوح في النقاش المستمر حول فيما إذا كانت الولايات المتحدة قد نوت وسعت لأن تكون بشكل رسمي " أمة مسيحية"، القائلون بفصل الدولة عن الكنيسة يشيرون إلى المادة رقم (11) كدليل بأن الموظفين العاملين
في الولايات المتحدة الأمريكية -قليلة الخبرة- كانوا واعين جداً بالصفة غير الدينية للحكومة، ولم يكونوا خائفين للإفصاح عنها في العموم.. مناصرو اليمين الديني عملوا للتقليل من قيمة ورمزية المعاهدة ويوحون بأن المادة(11) مثلّث آراء رجل واحد فقط.
الرّجل المشار إليه هو جويل بارلوJoel Barlow من ولاية كيناتيكت (Connecticut).. كان جويل هذا دبلوماسياً معارضاً لديه طموحات بأن يكون شاعراً ملحمياً بطولياً، بارلو عمل عميلاً دبلوماسياً للولايات المتحدة لدى الدول البربرية، مسئولا ومكلفاً بعقد اتفاقات مع أقطار ثلاث هي الجزائر وتونس وطرابلس، أمضى بارلو سنتين في شمال إفريقيا محاولاً عقد اتفاقيات ومحاولاً المحافظة على الولايات المتحدة في أن تدخل في حرب مع الدول البربرية، وقد كان من بين واجباته المحادثات الخاصة بالمعاهدة مع طرابلس.
تم نسيان الصدام بين الولايات المتحدة والدول البربرية في الغالب الآن، لكن في القرن التاسع عشر كان الصدام هو جوهر الموضوع، موضوع العلاقات الأمريكية الخارجية.
يعد بارلو اليوم شخصاً غير معروف، لكنه كان شخصاً محورياً مركزياً في الأمر كله آنذاك، لقد كان بارلو في زمانه مفكراً سياسياً وزعيماً وكاتباً ودبلوماسياً وشاعراً.
وبالنظر إلى العلاقة بين الدّين والحكومة في وسط النقاش، إنه وقت ممتاز وملائم للعودة إلى الوراء لاختبار ولقياس أهمية المعاهدة مع طرابلس، كيف دخلت لغة " ضد الأمة المحمدية" في الوثيقة (المعاهدة)؟
هل كان الأمر مهماً وذا مغزى؟ لماذا بعد أكثر من قرنين من الحقيقة (الواقعة) يجب أن يهتم أي واحد عن ما الذي قالته معاهدة عتيقة بالية يوماً ما ؟ معلومات عن العلاقات بين الولايات المتحدة والدول البربرية خلال الفترة، فترة ما بعد حرب الثورة (الأمريكية) مهمة لوضع الأمور في نصابها، الدول البربرية كانت في الأساس أمماً "خارج" القانون كسبت مالاً عبر القرصنة أو الانتزاع في أعالي البحار، اعتادت القوى البحرية الأوروبية العظيمة، خاصة بريطانيا وفرنسا، أن تدفع مبالغ سنوية، إتاوة، إلى الأمم البربرية للمحافظة على أساطيلها التجارية سليمة.
الولايات المتحدة برزت من الثورة في منزلة غير ثابتة على المسرح الدولي، الأمر الذي جعل سفن القطر ضحية سهلة للقراصنة البربر، ومع أن الأمة الأمريكية الجديدة كانت تتوق إلى تكوين وإقامة تجارة خارجية، فإن عدم وجود أسطول قوي جعل الإبحار التجاري سهل العطب.
بريطانيا، التي كانت لا تزال تتألم من فقدانها مستعمرتها السابقة كانت مصممة لسحق تجارة الولايات المتحدة عبر البحار.. عندما بدأت سفن أمريكية في الظهور في المتوسط، شجع المسئولون البريطانيون وحفزوا القراصنة البربر على افتراس السفن الأمريكية، وأعلنت الجزائر الحرب رسمياً على الولايات المتحدة في 1785، وخلال بضع سنوات أضحى 300 من المواطنين الأمريكان، غالبهم بحاره، رهن الاعتقال في شمال أفريقيا.
وبينما نادى وزير الخارجية في رئاسة جورج واشنطن، توماس جيفرسون باستخدام القوة العسكرية ضد الدول البربرية فإن جيفرسون اعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تشكل قوة بحرية، متعددة القوميات، من أمم لها قوة بحرية محدودة مثل البرتغال وأسبانيا والسويد وإيطاليا، وأن تهاجم تلك القوة الأمم البربرية.. في يوليو 1786 عندما استولت الجزائر على سفينة روسية صار جيفرسون يأمل أن كاترين العظيمة سوف تنظم بأسطولها إلى التحالف.
لكن الوضع السياسي الدولي في تلك الفترة أوقف التحالف.. أمم قوية مثل بريطانيا وفرنسا اللتان استفادتا من القرصنة البربرية سوف لن تتركا التحالف. الأحاسيس في الكونجرس كانت تميل إلى صالح دفع إتاوة سنوية للدول البربرية، لذا في ربيع 1785 أرسل أول ممثل أمريكي إلى شمال إفريقيا، جان لامب John Lamb وهو تاجر بغال سابق، انقضت سنة كاملة قبل أن يحل السيد جان لامب في الجزائر، وسرعان ما ثبت أنه غير كفؤ.
استدعى جان لامب بسرعة، ورشح جيفرسون شخصين للمهمة هما بول جانJohn Paul وتوماس باركلاسThomas Barclay لكنهما توفيا قبل أن يستطيعا الذهاب إلى مهمتهما، من هنا طلب جيفرسون والذي كان غاضباً وساخطاً، في 1793 من السيد ديفيد همفرىDavid Humphreys، سفير الولايات المتحدة إلى البرتغال بالذهاب إلى الجزائر.
وصل همفرى شمال أفريقيا في خريف 1793 لكن جيفرسون كان قد استقال بحلول هذا الوقت، كانت الولايات المتحدة مشغولة بمشاكل على طول حدودها، وعداوات متزايدة مع فرنسا في أعالي البحار، فشل همفرى كذلك لعدم وجود دعم له من بلاده، ومن ثم استدعى في 1795.. وهنا طلبت واشنطن من جويل بارلو المحاولة ثانية.
كانت واشنطن في هذا الوقت جادة على ما يبدو حول الوصول إلى تسوية مع الدول البربرية، وكان بارلو مخولاً بأن يَعِد الجزائر بـ 800.000 دولار، وهو مبلغ مذهل وصاعق في ذلك الوقت، ثم مبلغاً إضافياً من 20.000 دولار كل عام.
وبينما كان في الجزائر اعتقل ريتشارد اوبراينRichard O'Brien ، وهو واحد من أوائل رجال البحر، من قبل القراصنة البربر، سعى بارلو إلى كسب الموقف وتوسط لإرسال أوبراين إلى أوروبا لاستلاف المال الذي سيدفع كإتاوة، لكن وبينما كان في طريقه إلى هناك اعتقل قراصنة من طرابلس سفينة أوبراين، الأخير، وبتوجيه من بارلو، استخدم الوقت للتفاوض والتباحث حول الاتفاقية المشهورة مع طرابلس، ثم أحالها إلى بارلو من أجل إعادة الصياغة والموافقة.
في 4 نوفمبر 1796 اختتم بارلو التباحث حول المعاهدة مع طرابلس، أي مع يوسف باشا القرمانلي، باي طرابلس.. أحيلت المعاهدة إلى الولايات المتحدة التي شهدت تبدلاً إدارياً مع زمن وصول المعاهدة. أحال الرئيس جان آدمز John Adams المعاهدة إلى مجلس الشيوخ للإقرار.
في رسالة مختصرة مؤرخة في 26/5/1797 كتب الرئيس جان آدمز إلى المجلس: أضع أمامكم لاهتمامكم ونصحكم معاهدة سلام دائمة وصداقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ورعايا طرابلس البربرية اختتمت في طرابلس يوم 4/11/1796.
لسوء الحظ ليس هناك تسجيل للمحادثات التي قادت إلى المعاهدة . من غير المعروف كيف أن البند رقم (11) وجد طريقه إلى المعاهدة . معاهدات أخرى أجريت مع الجزائر وتونس لا تحوى بنداً أو بنوداً مماثلة هذا الأمر قاد إلى التأمل والتخمين بأن البند ربما يكون وضع بناء على إصرار المسئولين في طرابلس الذين أرادوا بعض التأكيد بأن الولايات المتحدة سوف لن تستعمل الدين حجّة لعداوات مستقبلية.
الأقاليم المسلمة الشمال إفريقية لديها سبب جيد في أن تكون مهتمة بهذا الأمر، أخذاً في الحسبان الصراع لقرون عديدة بين الإسلام والمسيحية، اغتاظ القادة المسلمون من معاملتهم على أيدي الأقطار المسيحية الأوروبية. ربما نظر قادة طرابلس إلى الولايات المتحدة الأمريكية على أنها مجرد امتداد لبريطانيا "المسيحية" وتوقعوا توترات مماثلة حول الدّين.
كان الإسلام معتبراً ومعداً لدى معظم الأمريكيين _بدون أدنى ريب_ دين غريب ودخيل في ذلك الوقت. وعلى الرغم من أن جيفرسون احتفل في الواقع بمشروع قانونه " مشروع قانون فرجينيا للحرية الدينية" الذي وُسّع ليشمل بحمايته (قانونا) إلى " اليهود وغير اليهود المسيحيين والمحمديين (المسلمين) والهند والكافر من كل طائفة" ، فإن حقيقة الحال أن المسلمين كانوا قلة في أمريكا القرن 18 -إذا كان هناك منهم أحد أصلاً- ومعظم الأمريكيين استمروا في النظر إلى الإسلام كعقيدة غربية وحتى شريرة .
من جانبهم، كان مسلمو شمال أفريقيا يحملون القليل من الحب للمسيحية.. استولى القراصنة البربر في 1784 على مركب شراعي ذي صاريتين (أو أكثر) أمريكي باسم Maria وأخذوا الطاقم والمسافرين إلى الجزائر، حيث تم الطّواف بهم في الشوارع وسخروا منهم بأنهم " كفرة" قبل أن يسجنوا.. في 1793 استولى قراصنة جزائريون على سفينة شحن باسم Polly حيث نهبوا محتوياتها وسجنوا طاقمها المكون من (12) رجلا، قبطان السفينة الجزائري أبلغ الأمريكيين بأنه يمكنهم توقع معاملة قاسية بسبب: " تاريخكم ومعتقداتكم الخرافية في رجل كان صلب من قبل اليهود وتجاهلكم المعتقد الحقيقي لأعظم وخاتم النبّيين محمد".
أحداث مثل هذه تؤكد التّوتر الديني بين الولايات المتحدة والإقليم البربري، لكن لا تبرهن على أن البند (11) كان محاولة لتلطيف أو تهدئة تلك الضغوطات.
الواقع أنه لا أحد متأكد كيف أن البند (11) وجد طريقه إلى الاتفاقية مع طرابلس، إنه سؤال مثير _ لماذا وضع هذا البند في الاتفاقية؟_ يقول روبرت ج آليسونRobert J.Allison أستاذ تاريخ في جامعة Subbolis University الذي ألف كتاباً في 1995 بعنوان : الهلال المحجب : الولايات المتحدة والعالم الإسلامي 1776 -1815 (الولايات المتحدة والعالم الإسلامي)، لم تُظهر بحوث آليسون أية مفاتيح حاسمة، لكنه يضيف: " لا أعتقد أنه يمكنك أن تعزو الاتفاقية إلى أي كاتب بعينه، هناك مصالح متعددة تلعب في الساحة، هل جاء الأمر من بارلو أو طرابلس سيبقى هذا غير معروف"، ومع ذلك فإن بارلو يبدو مرشحاً للأمر، فبالرغم من أنه عمل قسيساً عسكرياً ممثلاً للكنيسة المستقلة Congregational خلال الحرب الثورية (الأمريكية) فإن بارلو في نهاية عمره انزاح إلى معسكر الربوبي (القائل بمذهب الربوبية) (Deist) الذي تزعمه صديقه جيفرسون. ومثل جيفرسون فإن بارلو كان منادياً قوياً للفصل بين الكنيسة والدولة، كذلك مثل جيفرسون فإن بارلو كثيراً ما كان متهماً بكونه ملحداً من قبل خصومه السّياسيين.
بالإضافة إلى كتابته لقصيدة شعر (عمل لمدة ثلاثين عاماً على شعره) فإن بارلو كتب مقالات حول الفلسفة السياسية في خريف 1791 ، وبينما كان يعيش في بريطانيا كتب بارلو كتاباً يحمل عنواناً: نصيحة إلى " الطرق والمذاهب" المحظوظة في الدول العديدة الأوروبية ناتجة من الحاجة والضرورة الملائمة لمفاهيم ثورة عامة في مبدأ الحكومة : "Advice to the privileged orders in the several states at Europe resulting from the necessity and propriety of a general revolution in the principle of government " .
الفصل الثاني من العمل يهاجم الكنائس القائمة، كاتب قصة حياة بارلو المدعو جيمس وودريس James Woo dress يلاحظ في كتابه : بأن في كتاب " نصيحة إلى الطرق والمذاهب المحظوظة..." بيّن بارلو فرقاً واضحاً بين كنيسة الدولة كحليف لحكومة استبدادية ودين بسيط.. يجادل بارلو بأن عرس أو زفاف الكنيسة والدولة هو شر عظيم ويشير إلى الحسنات التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية بدون كنيسة دولة. وكنتيجة لذلك فإنه " ليس هناك قطر فيه الناس أكثر تديناً " حسب ملاحظته ورأيه.
دليل آخر يؤكد بأن بارلو كان مصدر البند رقم (11). المؤرخ مورتونبوردونMorton Borden يلاحظ في كتابه: يهود وأتراك وكفار بأن موردخاى م .نوح: Mordecai .M.Nooh قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في تونس زمن الرئيس جيمس ماديسون James Madison، يعتقد بأن بارلو مسئول على المادة أو البند رقم (11). ورغم أن نوح كان يهودياً ، فإنه كتب في 1850 بأنه شخصياً يعارض البند رقم (11) قائلاً: " لقد حفر (البند) تحيزات بارلو الشخصية على تعاقد مقّدس ومهيب عمل مع أمة أجنبية ".
الجانب الآخر للتخويل للبند (11) هو أوبراينO'Brien . كان أوبراين هذا سجيناً في الجزائر من 1785 إلى 1795 ، وهي فترة عمل فيها بمثابة سفير الولايات المتحدة غير الرسمي في شمال إفريقيا.. تجربة وخبرة أوبراين تركته في وضع شك في الرأي، المدفوع به من قبل البعض، بأن في النهاية كل أوروبا سوف تتحد مع الولايات المتحدة ضد الدول البربرية الإسلامية على قاعدة تراث مسيحي مشترك وعام.. أوبراين صار أكثر تشاؤماً خلال سجنه، مدركاً أن الدول البربرية عبارة عن مجرد رهائن متلاعب بها من القوى العظيمة الأوروبية.
في النهاية، كيف أدخل البند رقم (11) ووجد طريقه إلى الاتفاقية أقل أهمية من ردة الفعل التي حدثت تجاه إدخاله الوثيقة في الولايات المتحدة.. ومثل ما يلاحظ بوردون (Bordon) " ما هو مهم حول اتفاقية طرابلس هو..... قبولها الجاهز من قبل الحكومة، لم ترفع كلمة احتجاج واحدة ضد البند (11) في 1797.... مهما كانت مشاعرهم الشخصية في شأن سؤال وموضع المساواة الدينية لغير المسيحيين في دول محدّدة، الجميع اتفق في الرأي بأن البند (11) ينسجم مع مبادئ الدستور".
في مجلس الشيوخ لم تسبّب الاتفاقية غير موجة صغيرة، فطبقاً لمجلة المداولات التنفيذية لمجلس الشيوخ الأمريكي : Journal of the Executive proceedings of the united states of America.
قرئت الاتفاقية بصوتٍ عالٍ في قاعة المجلس، وعملت نسخ منها للأعضاء، لم تسجّل مناقشة أو جدل حول الوثيقة، وكان التّصويت عليها بالإجماع.
في سنوات مضت قال بعض دعاة " الأمة المسيحية" وجادلوا بأن البند (11) لم يظهر في الاتفاقية مطلقاً.. اعتمد هؤلاء في إدعائهم على بحث قام به باحث هولندي يدعى: دكتور س سنوك هيرقرونجى C.Snouk Hurgronje، ونشر في مجلة "رجل الدولة المسيحي" Christian Statesmon في عام1930، هيرقرونجي عاين النسخة الغربية الوحيدة الموجودة من الاتفاقية، ووجد عند الترجمة أن البند (11) كان في الواقع رسالة في الأغلب كلام غامض، من داي الجزائر إلى حاكم طرابلس.
لكن اكتشاف هيرقرونجي غير ذي علاقة.. لم يعد هناك شك في أن النسخة الانجليزية في الاتفاقية المحالة إلى الولايات المتحدة احتوت بالفعل لغة " أمة غير مسيحية ".
البند رقم (11) ظهر سليماً لم يمس بأذى في صحف اليوم مثلما في مجلدات الاتفاقيات ومداولات الكونجرس التي طبعت ونشرت فيما بعد، بما في ذلك قوانين الدورة للكونجرس الخامس (Session Laws of the Fifth congress) المنشورة في العام 1797م، وفي مجلد سنة 1799م المعنون: قوانين الولايات المتحدة الأمريكية " The Laws at the united states" .
في عام 1832م ظهر البند (11) في الاتفاقية عندما أعيدت طباعتها في: الوثائق، تشريعية وتنفيذية الخاصة بالكونجرس الولايات المتحدة الأمريكية 1789-1815، المجلد رقم (2) وهو مجلد يمكن أن يفحص اليوم في غرفة المطالعة الرئيسية في مكتبة الكونجرس:
Documents Legislative and executive at the congress of the united states 1789-1815 vol II.
إضافة إلى ذلك، ففي عمل هنتز ميلر الحاسم (1931) عن اتفاقيات من هذه الفترة : معاهدات وتصرفات دولية أخرى للولايات المتحدة الأمريكية: Treaties and other international acts of the united states of America .
يقول: " إن ترجمة بارلو هي تلك التي أحيلت إلى مجلس الشيوخ ... إنها النسخة الإنجليزية التي تعتبر في الولايات المتحدة دائماً نسخة المعاهدة ". من الواضح أن النسخة الإنجليزية من الاتفاقية، التي أقرها الكونجرس احتوت البند (11) كما سحب هذا البند من النسخة العربية للمعاهدة، ومن فعل ذلك ومتى ظل لغزاً آخر.
البند رقم (11) أخد حياة من ذاته . فبعد سنوات من إقرار المعاهدة بدأت تظهر الإشارات في خطب ومقالات وأحكام قضائية، بوردن (Bordon) يلاحظ بأن " البند رقم (11) ذكر مئات المرات في حالات قضائية كثيرة وفي المناقشات والجدل السياسي كلما ظهر موضوع العلاقات بين الكنيسة والدولة ...... اليهود أشاروا من حين إلى آخر إلى البند رقم (11) أثناء مناقشات موضوع نوقش كثيراً: هل الولايات المتحدة أمة مسيحية أم لا ؟
يذكر بوردون (Bordon) كذلك بأن دبلوماسياً أمريكياً باسم أوسكارس ستروس Oscar . s.Strous ترجم في عام 1899 البند رقم (11) إلى اللغة التركية وأحضره إلى السلطان، سلطان الإمبراطورية العثمانية في محاولة لانقاد حياة أمريكيين في الفليبين، صار الفلبينيون تحت السيطرة الأمريكية وكان على ستروس إيجاد طريق يقنع بها السلطان بأن الولايات المتحدة ليست معادية للإسلام حتى يضغط السلطان على المسلمين السّنة في الفليبين بقبول الحكم الأمريكي.
كتب ستروس في مذكراته المعنونة " تحت أربع إدارات " Under Four Administrations يقول : "جئت ومعي ترجمة من الإنجليزية إلى التركية للبند رقم (11) من اتفاقية مبكرة بين الولايات المتحدة وطرابلس، أشرف على محادثاتها جول بارلوJoel Barlow في 1796 ... عندما قرأ السلطان البند أشرق وجهه، سوف يمنحه الفرح والسرور - قال السلطان _ التصرف وفق وطبقاً لاقتراحاتي لسببين: من أجل الإنسانية ولكي يكون معاوناً للولايات المتحدة الأمريكية ".
تعد الاتفاقية مع طرابلس اليوم غامضة رغم أنها تبقى في أحيان عدة الموضوع الأكثر حدة في النقاش والجدل بين مقترحي " أمة مسيحية" وبين المنادين بالفصل بين الدولة والكنيسة.. في أحيان كثيرة اقتبست الاتفاقية خارج سياق الكلام من قبل دعاة فصل متحمسين بين الدولة والكنيسة.. في عام 1955 نسبت مجموعة ملحدة كلمات الاتفاقية إلى جورج واشنطن.
للأسف فشلت الاتفاقية في تحقيق هدفها المذكور في تحقيق السلام والصداقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وطرابلس.. حيث بدأ حاكم طرابلس في 1800م ، وهو غاضب بسبب تأخر أموال الإتاوة من جديد، يلاحق السفن الأمريكية.. جيفرسون الذي صار رئيساً للولايات المتحدة الآن، رفع من قدرة الأسطول الأمريكي وأرسل سفناً لحصار طرابلس.. في العام 1803 وقعت كارثة عندما لمست السفينة فيلادلفيا The ussPhiladephia أرض الشاطئ وتم اعتقال طاقمهاالمكون من 300 رجلا، جيفرسون دعا إلى الحرب .
في العام 1804 قصفت سفن أمريكية بقيادة ستيفان ديكاتورStephen Decatur ومن تم رفعت من فاعلية الحصار.
في السنة التّالية التمست طرابلس وتوسلت السلام.. هنا دخل توبياس لير Tobias Lear وهو دبلوماسي في محادثات من أجل عقد اتفاقية سلام.. لم تشمل الوثيقة الجديدة بالتمام لغة " ضد أمة مسيحية"، لغة اتفاقية بارلو، رغم أنها حوت بنداً يقول بأن الولايات المتحدة ليس لها كنيسة (رسمية) وافقت الولايات المتحدة الأمريكية أن تدفع لطرابلس 60.000$ وأطلق سراح بحارة السفينة فيلادلفيا جميعهم.. وماذا عن جويل بارلو الشّاعر الذي انقلب دبلوماسياً والذي أشعل 200 سنة من الجدل ؟ لقد أُرسل إلى فرنسا من قبل الرئيس جيفرسون ليمثل مصالح الولايات المتحدة، لكنه قوبل بمصير سيء كان أعداء نابليون يعيدون رسم خريطة أوروبا وكانت القارة في فوضى.. في العام 1812 دعي بارلو للسفر إلى فيلنا (Vilna) لوتوانيا لتوقيع معاهدة مهمة مع إمبراطور فرنسا، كان جيش نابليون قد خطط لأن يقضي الشتاء في Vilna لكن الروس طاردوا جنوده حتى أجبروهم على الهروب، وحيث أن الطرفين اتجها إلى Vilna، كان على بارلو واللاجئين الآخرين الهروب كذلك.
أصيب بارلو بداء في الرئة بينما كان تائهاً في عربة يجرها الخيل في جنوب بولندا.. في 21/12/1812 وصل بارلو قرية زار نووش Zarnowiec حيث أعلن أنه مريض ولا يستطيع السفر أبعد من هذا .. بقى لعدة أيام في بيت عميد القرية لكنه مات في منتصف النهار من يوم 26/12/1812 ، ودفن في فناء كنيسة محلية .. كان عمره 58 سنة.
حاولت زوجة بارلو المسماة روث Ruth أن تجلب بقايا جثة زوجها إلى أمريكا، لكن سقوط نابليون أشعل فوضى عارمة في أوروبا فصارت خطتها غير عملية وغير واقعية، في 1830 اقترح عضو مجلس الشيوخ عن ولاية الينوى مشروع قانون لبناء نصب للسيد بارلو في زارنووس (Zarnowiec) لكن المشروع لم يحصل على موافقة اللجنة، ولم يخرج من ثم إلى حيز الوجود. لا تزال بولندا المكان الأخير لقبر بارلو.. قبره محدّد بصحيفة بسيطة من الرخام بكتابة لاتينية ترجمتها: جول بارلو وزير دبلوماسي من الولايات المتحدة الأمريكية إلى إمبراطور فرنسا وملكة إيطاليا، مات هنا بينما كان مسافراً.