من منفاه في مصر، ومن وسط المعاناة والجراح التي أثخنت كيان الأمة الليبية، نادى الملك الراحل إدريس السنوسي إلى عقد اجتماع في داره بالإسكندرية حضره ما يقرب من أربعين شيخاً
من المهاجرين الليبيين، وذلك في أواخر عام 1939م، وذلك للتباحث في شأن الخيارات التي من الممكن اتخاذها لاستعادة ليبيا وتحريرها من الاحتلال الإيطالي الفاشستي، وانتهى الحاضرون إلى تفويض الأمير إدريس السنوسي - في ذلك الوقت - بمفاوضة الإنجليز حول تكوين جيش سمي فيما بعد بالجيش
السنوسي للدخول في الحرب الدائرة في ليبيا، وفي السابع من أغسطس 1940 م وجه الأمير إدريس دعوة إلى اجتماع آخـر فـي القاهـرة، وأستمـر هـذا الاجتماع لمدة ثلاثة أيام، وفي يوم التاسع من أغسطس صدرت قرارات تم بموجبها التأكيد على دخول الليبيين في الحرب إلى جانب الحلفاء (بريطانيا، الولايات المتحدة الأمريكية فرنسا،......)، ضد دول المحور ( ألمانيا، إيطاليا، ....).
ويعتبر اليوم التاسع من شهر أغسطس عام 1940 م هو بداية تأسيس الجيش الليبـي الفعلـي، ففـي أثنـاء المعـارك الدائرة بين الجيش الثامن البريطاني وجيـوش المحـور المكونـة مـن الإيطالييـن والألمـان، احتـاج إلـى عناصر شبه عسكرية تنضم مع أرتاله المحاربـة وتكـون كخـطوط خلفيـه يستعين بها الجيش المحارب
للاتصال بالأهالي المدنيين وتأمين قواعد الإمداد والتموين، وأفتتح معسكر لتدريب المتطوعين الليبيين المهاجرين لمصر في منطقة إمبابة المصرية، ومن أهم الترتيبات التي اتخذت لاحقاً إصدار الأوامر إلى قاطعات الجيش باسم الأمير إدريس السنوسي، كما اتخذ الجيش راية قتالية له مستقلة عن بقية تشكيلات الجيش الثامن، على شكل مستطيل أسود يتوسطه هلال ونجمة.
وقد ساهم العديد من المجاهدين الليبيين المهاجرين إلى مصر في تدريب تلك القوات، و كان لهـم شرف المساهمة أيضاً فيما بعد في تأسيس الدولة الليبية (دولة الدستور والقانون).
ومن الجدير بالذكر أن حجم القوات الليبية كان صغيراً مقارنة بالقوات الضخـمة الأخـرى المشاركـة فـي تلك المعارك، ولكن الأكيد أن المقاتلين الليبيين كانـوا ضمن قوات المقدمة في زحف الجيش الثامن في أعقاب الانتصار في العلمين، وأسهمت هذه القوات في الانتشار عبر المواقع الإستراتيجية لتأمينـها وحمايتـها مـن هجـوم العدو المضاد.
واستمرت مشاركة الليبيين في القتال ومطاردة فلول قوات المحور المنسحبة باتجاه الغرب، حتى أحكمت جيوش الحلفاء السيطرة على الأراضي الواقعة غرب سرت، وانتهى بها الأمر إلى تحرير مدينة طرابلس في شهر يناير 1943م .
وهكذا نستطيع الرد على من يشكك في مساهمة الليبيين مساهمة متميزة في تحرير ليبيا من الإيطاليين، هؤلاء هم شرفاء وأحرار ليبيا الطلائع الأولى من الجيش الليبي الوطني الذين تكونت منهم فيما بعد قوة دفاع برقة والقوة المتحركة المركزية بطرابلس وهو نواة الجيش الليبي الجديد.
تأسيس الجيش الليبي 1952م:
بعد أن وضعت الحرب أوزارها كان لرجال الجيش الليبي دور مهم جداً فقد تكونت الكوادر المدربة التي أمكنها أن تقوم بمهام إدارية في بلد كان يعاني فقراً مدقعا ونقصاً في الخبرات، وكان ينفض من على كاهله تراكمات أعوام طويلة من الاستعمار الإيطالي الغاشم، كما تحولت وحدات من الجيش إلى قوات شرطة عهد إليها حماية الأمن، وعرفت باسم " قوة دفاع برقة " ومن كتائب الجيش الليبي الصغيرة التي شاركت في تحرير ليبيا كانت نواة الجيش الليبي الحديث، وبعد نيل ليبيا لاستقلالها في 24 ديسمبر 1951 بدأت الحكومة الليبية في تفعيل الجيش وإرسال البعثات العسكرية للخارج كما أنشأت الحكومة مدرسة عسكرية في مدينة الزاوية عام 1953 م لتخريج دفعات سريعة من الضباط إلى حين عـودة المبعوثيـن مـن الخـارج.
وكان الجيش الليبي الفتي قد تأثر بكل من الجيش المصري والجيش العراقي وهذه الجيوش كانت مكونة على غرار العسكرية البريطانية، ولكن كان تأثير الجيش العراقي هو الأكثر بروزاً سواء في المصطلحات أو التدريب أو قواعد الضبط والربط العسكري ويرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل مثل استعانة الجيش الليبي بخبرات من الجيش العراقي وذلك عن طريق البعثات العسكرية العراقية التي أشرفت على تأسيس الجيش الليبي ووضع نظمه الأولية ، كما ساهم في إرساء هذه المفاهيم وأيضاً لتخرج عدد كبير من ضباط الجيش الليبي من الكلية العسكرية الملكية العراقية مـما جعـل الكليـة العسكريـة الملكيـة الليبية عند تأسيسها تسير على نفس النمط العراقي، وكان أول أمراء الكلية وعـدد مـن مدرسيـها مـن الضـباط العراقيين، بالإضافة إلى أن الجيش العراقي في ذلك الوقت كان يعد أفضل الجيـوش العربيـة تدريبـًا وتنظيـماً وانضباطاً، ولذلـك فـإن الأخـذ عنـه أضاف ميزة إضافية إلى الجيش الليبي.
رؤساء أركان الجيش الليبي منذ تأسيسه إلى شهر سبتمبر 1969 م
[1]ـ العقيد: عمران الحاضرة.
[2]ـ العقيد: داود سليمان الجنابــي.
[3]ـ الزعيم: عبد القادر الناظمي.
[4]ـ الزعيم: عادل أحمد راغب.
[5]ـ اللواء:السنوسي لطيوش.
[6]ـ اللواء:نوري الصديق.
[7]ـ اللواء:السنوسي شمس الدين.
في بداية 1955 تكون جيش ليبي ولكن صغير الحجم ولا يزيد عدد أفراده عن ألفي جندي وضابط، ثم افتتحت الكلية العسكرية الملكية ببنغازي سنة 1957. كان الالتحاق بالجيش تطوعياً (5) سنوات وأقصاها (7) سنوات.
وفي عام 1967 بدأت ليبيا تأخذ بنظام التجنيد الإلزامي حسب سنوات الميلاد بداية من 18 سنة يتم فيها الالتحاق إجبارياً لكل شاب ليخدم في الجيش لمدة 18 شهراً، إلا أن هذا النظام الذي انتدب لإدارته العقيد صالح العزابي لم يطبق بفعل قيام انقلاب سبتمبر 1969. ورغم قلة الموارد أنشأت عدة مدارس للتعليم والإمداد الإسنادى (مخابرة، نقليات، مشاة، مدفعية، هندسة ميدان، هندسة آلية ودروع) ثم تشكل السلاح البحري في نوفمبر 1962 بقيادة رجل كبير الهمة عالي الوطنية سليم الرؤيا هو منصور بدر يعاونه فهيم توفيق الجربي.
في أغسطس 1963 تشكل السلاح الجوي وقام بجهد كبير فيه الهادي الحسومي وصلاح الدين الهنشيري وعناصر أخرى من الضباط الممتازين، وفي سنة 1968 أنشئت وحدة للدفاع الجوي.
وهكذا استمر الجيش في عمله - والذي وصل عدده إلى حوالي 650 ضابطاً ونحو عشرة آلاف جندي.
كان الجيش الليبي جيشاً يافعاً ولم يكن يمتلك الأسلحة الحديثة وقد بدء التفكير في تحديث الجيش وتزويده بالمعدات اللازمة للدفاع عن الوطن.
بعـد العـدوان الصهيونـي عـلى مصـر وسوريا والأردن عام 1967 استلزم الأمـر فـي ليبـيا إلـى إعـادة النظر في إستراتيجـية تسليـح الجيـش الليبي، لذلك رأت الحكومة في ذلك الوقت أن الحاجة ملحة للحصول على أسلحة متطورة خاصة بعد رؤية تفوق العدو الصهيوني التقني والتكنولوجي والقدرة السريعة على الحركة والمناورة، وعلى الفور سارعت الحكومة الليبية برئاسة عبد الحميد البكوش للاتفاق على صفقة منظومة الدفاع الجوي ودبابات الشفتن من بريطانيا غير أن هذه الصفقة لم تتم وألغيت بالكامل بعد انقلاب القذافي العسكري واستيلائه على السلطة في سبتمبر 1969 م.
والشيء المميز في الجيش الليبي آنذاك بالرغم من قلة الإمكانيات والخبرات العلمية العسكرية الضبط والربط العسكـري الـذي أتصـف بـه أفـراده ولاستعداده لتقبل التأهل العسكري والعلمي، فقـد كـان تأهيـل الكوادر العسكرية يجري بصورة علمية وبطريقة مدروسة، كما أن المؤسسة العسكرية الليبية لم تشهد أي شكل من أشكال التحيز القبلي أو الجهوي، بل ضمت عناصر وأفراد من مختلف القبائل والجهات والمناطق والمدن الليبية دون أي حساسية أو تحيز لأي جهة أو طرف من الأطراف، كما أن الجيش منذ تأسيسه إلى شهر سبتمبر 1969 م لم يتدخل فيما يتعلق بالأوضاع السياسية الداخلية، وظل دوره مقتصرا على حماية الوطن والدفاع عنه.