المتتبع لقضايا الحد من التسلح في العالم يدرك أن اتفاقية الأسلحة الكيميائية تتبوأ صدارة المواثيق الدولية ذات العلاقة بنزع السلاح، وذلك من حيث فعاليتها النسبية في تنفيذ برامج إلغاء الأسلحة المعنية بها. بالإضافة لهذا، وعلى خلفية ما تحظى به هذه الإتفاقية من إقبال من طرف الدول، فقد باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح عالمية،
حيث لا يفصلها على ذلك إلا أن تنضم إليها الدول القليلة التي مازالت بعد لم تنخرط في سلكها. البعض من الدول التي لازالت خارج هذه الإتفاقية تمتلك أسلحة كيميائية وتنوي الإحتفاظ بها، وذلك ربما من منطلق قناعتها أن هذه الشريحة من الأسلحة هي بمثابة أداة ردع قريبة المستوى من آلة الحرب فوق التقليدية، ومن منطلق الإعتبار أيضا أنها بمثابة خيار كيماوي يمكن اللجوء إليه لردع الخيار النووي، في حالة ما إذا تطلب الموقف مهاجمة أهداف عسكرية على مستوى تكتيكي في مسرح العمليات أو على مستوى إستراتيجي في عمق أراضي الخصم.. وحيث يعتبر، من وجهة نظر الفكر العسكري، استخدام الأسلحة الكيميائية وسيلة ناجعة لشل النشاط القتالي في مسرح العمليات، بفعل ما تسببه الغازات الحربية السامة من خسائر وإعاقة في صفوف القوة البشرية، ومن تأثير بالغ على الكفاءة القتالية للقوات من خلال الحد من قدرتها على الحركة والمناورة وحرمانها من الإستخدام الأنسب للأرض والأسلحة والمعدات التي تعرضت للتلوث.. لذا فعسى أن تكون كافة هذه الإعتبارات مضاف إليها اعتبارات انعدام الثقة هي التي جعلت بعض الدول لا زالت تتمسك بالخيارات الكيميائية. كان من المفترض وإلى عهد قريب، وفقا لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، أن يكون تاريخ 29 أبريل 2012، هو الأجل النهائي الذي ينبغي بحلوله أن تكون الدول الحائزة قد أكملت عمليات تدمير أسلحتها الكيميائية التي سبق وأن أعلنت عنها، غير أن دولا حائزة، ولأسباب لا علاقة لها بالوفاء بأحكام الإتفاقية، اعتذرت عن قدرتها على التقيد بهذا الأجل، لذلك فقد منحت تمديدا يحق لها بمقتضاه تجاوز هذا الموعد شريطة أن يتم إكمال التخلص النهائي مما تبقى لديها من مخزون في أقرب وقت ممكن. والملاحظ أن الحديث في هذا الإطار يتعلق بأسلحة كيميائية معلن عنها، ولطالما أن الأمر كذلك، إذن فهناك اعتقاد بوجود مخزونات أخرى من هذه الأسلحة غير معلن عنها، متبقية لدى البعض من الدول الأطراف في الإتفاقية، وربما حصريا لدى الدولتين الحائزتين لأكبر كميات من مخزونات هذه الأسلحة وهما أمريكا والإتحاد الروسي اللتان من الأرجح، حين أعلنتا عن حيازتهما لأسلحة كيميائية، كان المعلن عنه شيئا والمتكتم عنه أشياء. لذا فمن البديهي والحالة هذه، أن تكون كل منهما قد استهدفت المخزون الكلاسيكي المتهالك بالأولوية في عمليات التخلص، مقابل الإبقاء على المخزون الأكثر تطورا وتحديثا في ترساناتها.
هذا ومع اكتضاض ترسانات الأسلحة الكيميائية لدى كل من أمريكا وروسيا بشتى أصناف الغازات الحربية، وبحكم العمر الإفتراضي للذخائر الكيميائية الذي لا يزيد بشكل عام عن خمسة وعشرين سنة، فقد برزت أمام الدولتين العديد من المشاكل والأعباء اللوجستية التي ظلت تأخذ منحى خطيرا، وفي مقدمتها مشكلة تخزين ونقل الذخائر الكيميائية ومداولتها، ولا سيما في ظل تقادم الغازات الحربية واهتراء الأوعية المعبأة فيها وتآكل الذخائر المحملة بها، وخاصة غازات الأعصاب المتميزة بمفعولـها الفائـق التأثيـر كمـا هـو معروف.
إذن كان لا بد لهاتين الدولتين من إيجاد حل لهذه المعظلة، يتمثل في التخلص من كميات هائلة من مخزوناتها الكيميائية بما تحويه من عشرات الآلاف من القذائف والذخائر الكيميائية المصابة بالخلل والتخلص كذلك من الأنواع غير ذات الجدوى المطلوبة، وقد كانت إتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية بالنسبة لهما الملاذ المناسب إذ تعتبر جزءً من الحل، لجهة كونها بمثابة الإطار التشريعي الذي في غضونه تعلن الدول الحائزة عما تمتلكه من أسلحة كيميائية، أو بالأحرى عما تريد الإفصاح عنه مما تمتلكه من تلك الأسلحة، بحيث تتعهد بتدميرها وفقا لأحكام الإتفاقية.
هذا وكانت الأسلحة الكيميائية قد شهدت تطورا رهيبا خلال العقود القليلة الماضية وارتفعت قدراتها الفتاكة، كما تطورت أساليب استخدامها ووسائل إطلاقها، فقد توصل علماء روس من تحديث برنامج التخليق البيولوجي لمركبات الترايكوثيسينات (سموم الفطريات) وقد سبق استخدامها ضد الأفغان. ومن جانب آخر اهتم علماء الحرب الكيميائية الأمريكان باستحداث صنف من الغازات من نوع (كربمات) الذي له تأثير فيسيولوجي شبيه بالغازات المؤثرة على الجملة العصبية، غير أن خصائصه من حيث السمية وشدة التأثير تفوق غاز السارين بعشرة أضعاف. والجدير بالذكر أن مجموعة غازات الأعصاب تتكون من التابون والزومان والسارين والفي إكس وتعتبر هذه المجموعة أخطر أصناف الغازات الحربية على الإطلاق بما تتميز به من سمية فائقة و تأثير مميت سريع المفعول ، وفي خضم سباق التسلح دأبت الولايات المتحدة منذ سنة 1986 على اعتماد برنامج تولت بموجبه تطوير أسلحتها الكيميائية، من أجل مواكبة روسيا في تفوقها الكيميائي ومن أجل التغلب أيضا على المشاكل اللوجستية التي تكتنف إدارة شؤون أسلحتها الكيميائية من عمليات التخزين والنقل والمداولة..
الذخائر الكيميائية الثنائية (Binary Chemical Ammunation) وسـط أجـواء المراهنـة عـلى الخيـار الكيميائي، تم التوصل إلى تطوير ذخائر كيميائية ثنائية علامة( M687) يجرى تعبئتها بمركبين كيميائيين غير سامين مادام كل منهما منفصلين ، لكن هذين المركبين يتفاعلان فينتجان مادة سامة بمجرد الإمتزاج مع بعضهما البعض. وقد جهز هذا النوع من القذائف بصمام زمني، يضبط سلفا ويبدأ في العمل عند انطلاق القذيفة، بحيث يجرى خلط المركبين في موعد محسوب أثناء فترة طيران القذيفة وهي في مسارها نحو الهدف.
ونظرا للتصميم المعقد الذي يكتنف نظام الخلط داخل القذيفة ولوجود الصمام الموقوت، الأمر الذي أدى إلى تكبير حجم القذيفة وزيادة وزنها، لذا فقد اقتصر استخدام القذائف الكيميائية الثنائية على المدفعية الثقيلة وخاصة من عيار 155 مم، علاوة على الرؤوس الحربية الصاروخية والقنابل الجوية ، وعلى الرغم من إمكانية تطبيق هذه الطريقة على أصناف مختلفة من الغازات الحربية إلا أن التجارب أثبتت نجاح هذه الطريقة بوجه خاص عند استخدام غازات الأعصاب.
ولتجهيز قذيفة مدفعية بغاز السارين مثلا يتم تعبئتها في شقين منفصلين:
الأول بمادة ميثيل فوسفنيل داي فلوريد (Methyl Phosphenyl DI Fluride) والثاني بمادتي أيزوبروبيل أمين والكحول الأيزوبروبيلي (Isopropyl Amine & Isopropyl Alcool) وبذلك تصبح محتويات القذيفة متكونة من مواد منفصلة غير سامة مبدئيا، إلى حين اشتغال الصمام لدى انطلاق القذيفة عندئذ تختلط المواد فيتكون غاز السارين.
ومن الناحية اللوجستية تعتبر الذخائر الكيميائية الثنائية آمنة من جميع الأوجه، سواء أثناء التخزين أو التعبئة أو المداولة ،ويمكن التعامل معها دون مخاطر على الأفراد القائمين عليها وعلى البيئة طيلة وجودها في طور التخزين وأثناء النقل، لأن مفرداتها معزولة لكونها على هيئة مواد منفصلة لا تنطوي على أي تأثير سـام يذكـر، ومـع ذلـك يعمـد الجيـش الأمريكي عادة، بقصد تعزيز تحوطات الأمان، إلى تخزين عبوات كل مركب في موقع منفصل.
ومن جهة أخرى نجد أن الخصائص الفيزيائية للذخائر الكيميائية الثنائية تتيح لها عمرا افتراضيا طويل الأمد نسبيا، بالمقارنة مع ما هو عليه الحال بالنسبة لذخائر الغازات الحربية التقليدية. أما من الناحية التكتيكية فاستخدام الذخائر الكيميائية الثنائية يحقق زخما مؤثرا في صميم العملية القتالية من خلال التأثير الفائق لغازات الأعصاب على القوات في مسرح العمليات.
وسائل إطلاق الذخائر الكيميائية ساعد ظهور المقذوفات الموجهة إلى إيجاد واسطة شكلت البديل الأفضل لإيصال الغازات الحربية إلى صميم الهدف عن طريق الجو، وذلك باستخدام رؤوس حربية مصممة للإنفجار على ارتفاع معلوم من سطح الأرض. وتحتوي هذه الرؤوس على قنابل معبأة بالغاز الحربي، وتنتشر تلقائيا من خلال آلية الزعانف الخارجية المزودة بها، والتي تجعل القنابل تدور حول محورها عند سقوطها على نحو تتخذ معه شكلا مخروطيا يتسع طرديا مع اقترابه من سطح الأرض، فينتشر رذاذ وقطرات الغاز الحربي على مساحات كبيرة من الأرض ما يؤدي إلى تلويث مناطق شاسعة بواسطة انفجارات متلاحقة.
ومن الطبيعي أن يترافق برنامج تطوير الذخائر الكيميائية مع تطوير أساليب ووسائل إطلاقها. في هذا السياق قامت الولايات المتحدة بتصنيع قنبلة أطلقت عليها " بيج آي Big Eye " أعتبرت حجر الزاوية في البرنامج الأمريكي الخاص بتطوير قدرات الردع الكيميائي، وذلك لجهة كونها وسيلة فائقة الفعالية يمكن بواسطتها استخدام السلاح الكيميائي لاستهـداف أراضـي الخصـم فـي الأعماق. ويتكون المحتوى الكيميائي الفعال للقنبلة من مادة الكبريت الذي يخزن في عبوة منفصلة تركب في القنبلة قبل إقلاع الطائرة القاذفة ويخلط المحتوى مع مادة (QL) خلال فترة إنطلاق الطائرة نحو الهدف فينتج غاز (VX) المنتمي لفصيلة الأعصاب، وهو غاز من شدة السمية بحيث يمكن لنقطة واحدة منه على رأس الدبوس، لو لامست جسم الإنسان بشكل مباشر، أن تسبب له الوفاة في غضون دقائق معدودة.
وفـي غمـرة التوجـه الأمريكـي نـحو تحديـث وسائـل إطـلاق الغـازات الحربيـة، تـم إنتـاج أنظـمة المدفعيـة الصاروخية علامة (MLRS)، وقد بـدأ تصميـم هـذه الأنظمـة منـذ السبعينيات من القرن الماضي ودخلت الخدمة في الجيش الامريكي خلال الثمانينيات عقب تطويرها، بعدئذ عممت على دول حلف الناتو ، وقد ركبت هذه الأنظمة الصاروخية على هيكل دبابة ويمكنها إطلاق صواريخ كيميائية فرادى أو مجمعة. وفي ذات السياق تم إنتاج قذائف مدفعية متطورة محملة بمادة VX تطلق بواسطة المدفعية من عيار 175 مم هاوتزر ومن عيار 203 مم، ويصل مدى هذه المدافع من 20 إلى 30 كم.
أما صواريخ سكود الروسية أرض/ أرض) فيمكنها إطلاق قذائف كيميائية إلى مدى 280 كم.
عموما لا يمكن الإحاطة بالبرامج الكيميائية المطورة في عجالة، فالحديث فيها ذو شجون، وحسبنا فقط إلقاء الضوء على بعض ملامح التطوير المتعلق بتلك البرامج. إتفاقية الأسلحة الكيميائية والإلتزام الدولي رغم أن الدول الحائزة التي أعلنت عن وجود أسلحة كيميائية لديها، قد توصلت إلى تدمير أكثر من نسبة 80% من مجموع ما أعلنت عنه مع نهاية العام 2011، ومن المفترض أن يكتمل تدمير النسبة الباقية في أقرب وقت ممكن. وهذا يعتبر من حيث المبداء شوطا على الطريق الصحيح.. إلا أنه مع ذلك عمل غير كاف ما لم تتخذ الدول الحائزة الكبرى، والمقصود أمريكا وروسيا، إجراءات تتحلى خلالها بالشفافية المطلوبة وبالمزيد من المصداقية والوضوح الكامل للكشف عن كل برامجهما الكيميائية والإفصاح عنها وأن تقوما بتدمير كافة مخزوناتها ودون استثناءات. وإذ تعتبر اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية صمام الأمان لدرء شبح الحرب الكيميائية وأمل الشعوب في تجنب ويلاتها فإن منطق الأخلاق وداعي الإلتزام بالمواثيق الدولية يحتمان على الدول المعنية وجوب التخلي عن الإنتقائية في مسألة التعاطي مع الإتفاقية، بما ينبغي معه تجنب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تقويضها أو الإطاحة بمبادئها. هذا فضلا عما يستدعيه واقع الحال، بالنسبة للدول التي لا تزال خارج الإتفاقية، من وجوب الإنضمام إليها والتوقيع عليها وأن تلتزم بكافة أحكامها، وبصفة أخص الكيان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، الذي يمتلك هو الآخر قدرات كيميائية هائلة ضمن ما يمتلكه من أسلحة دمار شامل، في حين أنه معروف بعدم الإمتثال للقوانين الدولية.
ولما كانت إتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية إحدى نقاط الإرتكاز في الجهود الدولية الرامية لنزع أسلحة الدمار الشامل بهدف الإسهام في إرساء الأمن والسلم الدوليين اللذين بلا شك لن يتحققا في ظل وجود هكذا أسلحة. في هذا السياق وحيث كانت الإتفاقية ذات العلاقة معنية بحظر استحداث وتخزين واستعمال الأسلحة الكيميائية ويفترض أيضا أن تعنى بتدمير تلك الأسلحة بحزم ودون تمييز، إذن فإن أي تهاون في تطبيق أحكامها سيعرقل مقاصدها وسيؤدي حتما إلى التأثير على مصداقيتها، حينئذ ستشهد عزوفا من قبل الدول، خصوصا النامية منها، بعد أن أقبلت عليها ما قد يؤدي حتى إلى إفراغ الإتفاقية من محتواها، بشكل قد يصل بها إلى أن تغدو مجرد اتفاقية عدم انتشار ليس أكثر.
{facebookpopup}