على إثر انهيار الإتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو الذي كان يتزعمه , كانت أعداد كبيرة من المعدات والعربات القتالية التي تشكل جزءا من تسليح الحلف قد خردت فآل مصيرها إلى أفران الصهر لتجد طريقها إلى مصانع الحديد والصلب للإستفادة من معادنها وإعادة تدويرها وتصنيعها.. وهذا بلا شك أمر عادي ولا غرابة فيه طالما أنه يتعلق بأسلحة تقليدية شكلت موردا هائلا من مصادر الإمداد بالمعادن لصالح المصانع المختصة .. لكن أن يعاد تدوير بعض الفئات من وسائل التدمير الشامل لتحويرها إلى منتجات وبضائع فهذا ينطوي على مفارقة غريبة.
ولعلنا بمطالعة الأسطرالتالية سنقف على تجليات هذا الأمر لم تكن عملية إنتاج وتطوير الأسلحة الكيماوية في البداية , سوى فكرة راودت عقول علماء ألمان مع مطلع القرن الماضي وتبلورت على هيئة مبادرة تقدموا بها إلى قيادة الجيش الألماني.. وكان هؤلاء العلماء يومئذ يجرون أبحاثا تخصصية ويعملون في مجال الصناعات الكيميائية التي تختص بالمواد التي تستخدم في الدباغة وإنتاج الأسمدة الزراعية ومبيدات الآفات الخ.. وترتكز مبادرتهم المقترحة على إمكانية تسخير خبرتهم العلمية وتطويع بعض منتجاتهم الكيميائية وتطوير خصائصها بحيث تصبح سلاحا يمكن أن يستجيب لفعاليات القتال في ميدان الحرب, وكانت يومئذ معركة حامية الوطيس تدور رحاها بين ألمانيا والدول المتحالفة ضدها ضمن الحرب العالمية الأولى.
وعلى الرغم من أن القيادة الألمانية استحسنت تلك المبادرة من حيث المبدأ , ولا سيما أن الجيش الألماني كان آنذاك يتطلع إلى تحقيق إنجاز في الجبهة المقابلة محاولا اختراق دفاعات أعدائه من الجيوش المرابطة على امتدادها , و كان الجمود الذي يكتنف الموقف يحول دون هذا التطلع . وقد ترددت ألمانيا بعض الشيء في الأخذ بهذه المبادرة التي تدفع باتجاه اللجوء إلى السلاح الكيماوي , لأنها لم تكن تعتزم انتهاك ما تعهدت عليه بموجب ميثاق لاهاي لسنة 1899 ف , حول عدم استخدام الأسلحة السامة .. إلا أنها مع ذلك رأت أن سلاحا كهذا يمكن أن يكون فعالا في كسر الجمود السائد في الجبهة وأن يكون جديرا بأن يحقق مباغتة وبالفعل فقد كان الأمر كذلك , عندما قرر لجيش الألماني خوض هذه التجربة فكان له ما أراد , مستفيدا من نتائج المبادأة وميزة السبق بالعمل..
شكلت الخطوة الألمانية باستخدام السلاح الكيماوي منعطفا خطيرا على مسارات الحرب العالمية الأولى وألقت بظلالها على الإعتبارات الإستراتيجية والتعبوية والإدارية , مما فتح المجال واسعا أمام تسابق طرفي النزاع نحو تطوير واستخدام هذا السلاح , حيث استخدم الخصمان وسائل إطلاق الغازات بكثافة ضد بعضهما البعض وتبادلا القصف الكيميائي بشكل عنيف , مما أدى إلى حصيلة من الخسائرالبشرية قدرت بمائة ألف عندما وضعت تلك الحرب أوزارها.
وعلى خلفية ما آلت إليه الأمور من إمتلاء كل من الترسانة الكيميائية لدى الجانب الألماني من جهة , ولدى الجانب البريطاني من جهة أخرى كأحد الدول المتحالفة , بشتى أنواع الغازات الحربية السامة , بفعل التسابق الفاحش فىإنتاج وامتلاك أشد الأنواع فتكا , استعدادا لحرب جديدة . فقد توصلت ألمانيا في تلك الأثناء إلى إنتاج غاز التابون المؤثر على الأعصاب.. وكان في خضم هذه المعطيات أن أصبحت الأسلحة الكيميائية مرشحة لأن تكون في صدارة أسلحة الدعم والإسناد المتوقع استخدامها في معارك الحرب العالمية الثانية , إلا أن الوقائع دحضت هذا الإعتقاد حينما اقتصرت الحرب على الأسلحة التقليدية دون كيماوية وذلك لاعتبارات تتعلق بالتوازن النسبي للقوى في المجال الكيميائي ولتخوف كلا الطرفين المتحاربين من مغبة تعرض بعض شعوب أوروبا للفناء في حرب كيميائية غير حاسمة لن يكون فيها غالب ولا مغلوب ..
على إثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية ودخول قوات الحلفاء إلى برلين , تم العثور على مخزون هائل من الغازات الحربية السامة وعلى رأسها غاز التابون (GA) وغازالزارين (GB)المضادان للأعصاب , بكميات تكفي لإبادة جماهير عريضة من سكان العالم لو استخدمت ضدهم .. وكان من المفترض أن يتم التصرف وقتئذ بتحكيم المنطق العلمي والوازع الأخلاقي الذين يحتمان التخلص الآمن من هذا المخزون عن طريق إعدامه وإتلافه نهائيا .. لكن النزعة الرأسمالية الغربية وإيثار الربح جعل بعض الشركات الأوروبية , المتخصصة في إنتاج المواد الكيميائية, ترى في هذا المخزون الحربي منجما ثمينا وتجد فيه ثروة كبيرة تزخربأصناف مركزة من الكيميائيات والسلائف , لو سخرته في أنشطة صناعية سيحقق لها أرباحا طائلة .. فما كان من تلك الشركات إلا أن تسابقت في اقتسام هذه المواد الكيميائية وعكفت على تغيير خصائصها وتحويرتراكيبها وإعادة تصنيعها حتى خلصت إلى إنتاج مواد تستعمل في مكافحة الآفات الزراعية وإبادة الحشرات.. وعلى هذا النحو انخرطت الترسانة الكيماوية الألمانية بما تتضمنه من عوامل مؤثرة على الأعصاب في سلك العملية التصنيعية الموجهة إلى إنتاج المبيدات الحشرية بمختلف أنواعها .. وتدرجت من خطوط الإنتاج إلى قنوات التسويق ومنها إلى أيادي المستهلكين.. الذين بكل تأكيد لم يكونوا على خلفية بحقيقة وتاريخ تلك المنتجات حينما أقبلوا على استخدامها وبالتي فإنهم لم يتوقعوا ما يمكن أن يترتب على التعامل المباشر معها من سمم بطيء يفضي بهم إلى أضرار صحية على المدى الطويل , هي من الخطورة بمكان .
هذا ورغم ما تتيحه المنتجات الكيميائية عامة من فوائد جمة على مختلف الأصعدة إلا أنه يمكن اعتبارها سلاح ذو حدين لجهة كونها محفوفة بالمخاطر, بسبب ما ينطوي عليه التعامل معها من تأثيرات جانبية على المستخدم ومن تداعيات لاحقة لا تحمد عقباها , من شأنها أن تؤدي إلى اختلالات صحية خطيرة كثير منها غير قابل للعلاح .. وخاصة إذا كانت هذه المنتجات الكيميائية تفتقر للقدر اللازم من المواصفات القياسية وإلى الحد المطلوب من مراقبة الجودة معاييرالسلامة , أو إذا أسيء استخدامها أو تم الإغفال عن تحوطات الأمان بشكل يخالف الضوابط المحددة في تعليمات وإرشادات الإستعمال والمعروف أن الصفة التراكمية تعد إحدى خصائص التأثير السلبي الذي تخلفه الكيميائيات المختلفة بفعل ما يتعرض إليه الإنسان منها , إما بالإبتلاع أو اللمس أوالإستنشاق , أثناء تعامله معها في حياته اليومية.. أي أن نتائج وأعراض هذا التأثير السلبي لا تظهر بشكل متسارع بل قد يستغرق ظهورها سنوات عديدة وأحيانا عقودا من الزمن . إلا إذا كانت الجرعة المتعرض لها مفرطة فحينئذ يكون التسمم فوريا بطبيعة الحال .
ولعل ما قد حدث لآلاف من المواطنين في بريطانيا وفي دول أوروبية أخرى , يعكس جانبا من ملامح التأثير التراكمي نتيجة التعرض للمواد الكيميائية وذلك حينما باتوا يعانون من أمراض عصبية غريبة وغير معروفة , كثير منهم قضى نحبه بسببها. وتتلخص أعراض المرض في مراحله المتقدمة , في الشعور بالإرهاق الشديد والتعب الجسدي والإعياء الذهني بالترافق مع تقلصات عضلية مؤلمة وأوجاع في كل أعضاء الجسم مع تشنجات عنيفة , بالإضافة إلى التهابات عصبية واختلالات في وظائف الدماغ تسبب في قلة التركيز وتدني مستوى الذاكرة.. وتمحورالتشخيص الطبي المبدئي لهذه الحالات الحرجة حول وجود إصابة في الجملة العصبية , وقد رأى الأطباء في هذه الأعراض أمرا غير اعتيادي ويدعو للإستغراب , مما أثار العديد من التساؤلات الطبية .. فأي تأثير يمكن أن يؤدي بهذا العدد المتزايد من الناس إلى هكذا وضع صحي ؟ ورجح الأطباء أن يكون الأمر مرتبطا بالتعرض لمواد سامة .. وبالفعل بعد تقصي بعض الحقائق تبين أن طبيعة العمل لهؤلاء المرضى تشكل علاقة ارتباط مع الداء , لأن القاسم المشترك بينهم يكمن أولا في كونهم فلاحون , وتبعا لذلك اتضح أنهم يستخدمون موادا كيميائية خاصة , على هيئة مبيدات لمداواة مواشيهم وأغنامهم من الحشرات الضارة التي تلتصق بجلودها كالقراد والبراغيث وغيرها.. وذلك بواسطة غسل هذه الحيوانات دوريا بتعويمها في أحواض مملوءة بالماء المخلوط بنسبة معلومة من تلك المبيدات والتي تحتوي ضمن تركيباتها على مادة الفوسفات العضوية (Organophosphates) ومركبات فسفورية عضوية .. والمستغرب هنا أنهم تعودوا على القيام بذلك العمل دون حماية أنفسهم بارتداء الأقنعة أو البدل الواقية .. وقد تبين فيما بعد أن هذه المبيدات مشتقة من الأسلحة الكيميائية المؤثرة على الأعصاب والعائدة للترسانة التي عثر عليها في برلين , والتي قامت الشركات بإعادة تدويرمحتوياتها من الغازات الحربية وتحوير خصائصها وإعادة تصنيعها وطرح منتجاتها في الأسواق على هيئة مبيدات حشرية , دونما أدنى مراعاة لنتائج التأثيرالخطير الذي سيطال صحة الإنسان في المستقبل المنظورعندما يتلازم التعامل مع هذه المشتقات السامة.. و بوسع المطلع على الأعراض والتأثيرات الفسيولوجية التي تطرأ على الإنسان , عندما يتعرض للغازات الحربية المؤثرة على الأعصاب , أن يلمس الكثير من أوجه التشابه الواضح بينها وبين الأعراض التي يعاني منها هؤلاء الفلاحون وخاصة في الجزئية المتعلقة بظاهرة التقلص العضلي والتشنج العصبي .. وهنا نستطيع أن نخلص إلى مقارنة بسيطة بين غاز الأعصاب كسلاح ومشتقاته كمبيد حشري , وذلك من حيث التأثير على الإنسان , فالأول سريع المفعول فوري التأثير, والثاني بطيء المفعول تراكمي التأثير , أما كلاهما فقاتل. وكأن هذه الغازات السامة أبت إلا أن تحقق الغاية التي صنعت من أجلها في الأصل , إن لم يكن ذلك عاجلا فآجلا.
وإذا كان هذا حال بعض الآلاف من الأوروبيين ممن تضرروا من استخدام مبيدات غير آمنة, فكيف كان الأمر في البعض من دول العالم الثالث التي تصدر لها مبيدات أسوأ نوعا مما هو مسموح به للتداول في أوروبا ؟ ولا سيما أن كثيرا من المنتجات الكيميائية غيرالمرخص لها بالإستخدام في أوروبا وأمريكا , بسبب رداءتها وعدم مطابقتها للمواصفات القياسية , أصبحت تصدر للعالم الثالث. . ومما يزيد الأمر سوءا انعدام الوعي في بعض الأوساط بالمخاطر العامة للمواد الكيميائية , وخاصة إذا استخدمت بشكل عشوائي . فمثلما يفترض أن تتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة لتفادي التأثير المميت للغاز الحربي بقصد النجاة من الموت أثناء اندلاع الحرب الكيماوية , فإن الإجراءات الإحترازية أيضا يجب أن تراعى من قبل المرء بالقدر الذي يتناسب مع واقع الحال عند تعامله مع الأصناف الكيميائية الجاري استخدامها في الأنشطة التي يمارسها سواء كانت زراعية أوصناعية أوغيرها وذلك وفقا لطبيعة المادة ودرجة سميتها , حتى يضمن السلامة لنفسه ولغيره .. كما أن الرقابة الصارمة على المستوردات الكيميائية في بلدان العالم الثالث وترشيد الإستعمال , تعد من أبرز التدابير الإحترازية في هذا السياق وهي من شأنها أن تضع حدا لدخول الأنواع الرديئة غير المطابقة للمواصفات القياسية والتقليل من حجم الأخطارالمهددة للصحة العامة والمؤثرة على البيئة بسبب تبعات التعامل مع هذه المواد.
إلى ذلك فقد أدركت دول العالم خطورة وحساسية المسائل المتعلقة بالكيمياء , فرأت وجوب وضع السبل الكفيلة لتفادي أو تقليل ما يترافق مع استخداماتها من إنعكاسات سلبية على الإنسان والبيئة , وكيفية تحديد الأوجه المناسبة لتسخير الكيمياء على نحو آمن لخدمة الأغراض السلمية , التي تدفع باتجاه الأهداف التنموية عامة , فسنّت التشريعات الوطنية وتم بعث واستحداث العديد من المعاهدات والإتفاقيات الدولية ومنها الإقليمية والثنائية , علاوة على عقد العديد من المؤتمرات والندوات وبرامج العمل .. بهدف إرساء الإجراءات وترسيخ الضوابط المختلفة كأطر تشريعية ومؤسساتية لتنظيم وتنفيذ التدابير الكفيلة بالإستخدام الأمثل للكيمياء ضمن معايير السلامة المطلوبة.
وتعد إتفاقية لاهاي لسنة 1993 ف , والخاصة بحظر استحداث وإنتاج وتخزين واستعمال الأسلحة الكيميائية وتدمير تلك الأسلحة , والتي يطلق عليها اختصارا اتفاقية الأسلحة الكيميائية Chemical Weapons Convention (CWC) وتعد مما يدخل في باب التشريعات الدولية من هذا القبيل , هذا فضلا عن كونها تندرج في إطار نزع السلاح. وتتبنى إستراتيجية تسعى بموجبها أن تكون الإنجازات في ميدان الكيمياء مقتصرة على ما فيه مصلحة الإنسانية . وترتكز هذه الإستراتيجية على قناعة بإلغاء كافة الأسلحة الكيميائية وتدمير المخزون منها .. وعلى إثردخول هذه الإتفاقية إلى حيز التنفيذ بالنسبة للدول الأعضاء , بدأت الدول الحائزة وتحت إشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية(OPCW) في اتخاذ الإجراءت العملية بالتخلص من مخزوناتها الكيميائية وذلك باستخدام محطات خاصة لهذا الغرض , على هيئة محارق تتوفر فيها أرقى المواصفات الفنية والمعايير الدولية المطبقة لضمان الأمن والسلامة للأهالي والبيئة..
وعلى صعيد آخر, وفيما نجد دولا تحتكر السلاح النووي وتحتفظ به متمادية في تطويره , الشيء الذي ينذر بتهديد هو من الخطورة على درجة يمكن للمرء أن يتصورمعها أن تفجيرا نوويا من عيار متوسط في منطقة مأهولة , من شأنه أن يحدث من الدمارالفوري ما يضاهي أو يتجاوز ما خلفه زلزال هاييتي. لذلك فإن شعوب المعمورة تتطلع إلى اليوم الذي تتم فيه الإزالة الكلية لكافة الأسلحة النووية بشكل نهائي من العالم , حتى تتخلص هذه الشعوب أولا من التهديد الذي تشكله هذه الأسلحة الرهيبة وثانيا من التهديد المتنامي للمحيط في ثنايا ما تتعرض له المكونات البيئية من شتى المفاسد والأضرار جراء الأنشطة المتصلة بالسلاح النووي , من تصنيع وإجراء للتجارب النووية وما إلى ذلك مما يترتب على هذا الهامش من مخلفات وانبعاثات ونشر للتلوث.. هذا فضلا عن أضرار نفايات اليورانيوم , التي لم تجد البعض من الدول النووية وسيلة للتخلص منها أفضل من إعادة تدويرها ثم استغلالها في صناعة أنواع من القنابل والذخائرمن مشتقات اليورانيوم المستنفد , تستخدمها في عمليات حربية خارج أراضيها بهدف التدمير الساحق والتلويث المزمن لأوطان الشعوب , ولقد ألحقت مختلف تلك الأنشطة والممارسات الضررالبالغ بالبيئة بما سببته وتسببه من التلوث الإشعاعي والذي يعد من أخطر أنواع التلوث وأشدها انتهاكا للنظام البيئي وتقويضا لمقومات الطبيعة . مما شكل إحباطا لطموحات البشرية التي تتوق إلى محيط نقي قابل لأن تستمر الحياة في ربوعه .. فهل سيستجيب يوما المجتمع الدولي للطموحات الحضارية التي يتطلع إليها سكان الكرة الأرضية؟