أساسيات الإستراتيجية العربية الشاملة إن طبيعة الصراع الدولي أو الإقليمي على حد سواء أصبح في عصرنا الراهن يشمل جميع مظاهر الحياة البشرية،
وبفعل التطور الحضاري أصبح الصراع يدور على جميع الأصعدة وفي جميع المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.. ولضمان النجاح في خوض أي صراع يجب تبني إستراتيجية معينة، وحيث أن الصراع يأخذ أشكالاً وأنماطاً متعددة فإنه ليس من إستراتيجية في هذا العصر سوى الإستراتيجية الشاملة لمواجهة أي صراع دولي أو إقليمي، ولأن الأمة العربية تواجه أخطر التحديات في تاريخها فإنها في أشد الحاجة لنهج إستراتيجية شاملة لمواجهة هذا التحدي الحضاري الذي يشمل جميع الأمة العربية وليس جزءً واحدًا منها.
الجزء الثالث
إن احتلال الأرض العربية بفلسطين ومحاولة إقامة كيان استعماري استيطاني صهيوني توسعي على أنقاضها هو في جوهره عملية تحدي للأمة العربية ككل، وهو الدليل على الاستهانة بقدراتها، فاقتطاع جزء من كيان الأمة العربية لا يعتبر تحدياً لذلك الجزء بقدر ما هو تحدي للأمة كلها. ومن الطبيعي أن يتفرع عن هذا التحدي الحضاري عدة تحديات، فعملية استنزاف القدرة العربية بالحروب الجانبية المتتالية هو في الأساس نوع من التحدي الاقتصادي، وقيام العدو الصهيوني بدور الجدار الفاصل جغرافيا بين الأقطار العربية هو في الأساس تحدٍ قومي، وعملية تهويد الأراضي العربية تعتبر تحديا للعروبة، وإظهار العدو الصهيوني بمظهر المتفوق يعبر عن التحدي للقدرة العربية، وغيرها .. وغيرها من التحديات، ولذلك فإن الأمة العربية في أمس الحاجة للربط بين الإستراتيجية والعلوم الأخرى لوضع إستراتيجية عربية شاملة لمواجهة جميع هذه التحديات واجتيازها.
بديهيات الصراع العربي - الصهيوني:
من أبجديات الصراع العربي - الصهيوني والتي يحفظها كل عربي قومي عن ظهر القلب أن الصراع هو في عمومياته صراع مصيري عدائي الطابع ولا يتحمل أنصاف الحلول وبالتالي فإنه لا يمكن أن ينطبق عليه حوار الإرادات بمعناه البسيط وإنما بمعناه العنيف الشامل الذي لا يتوصل أحد الطرفين فيه لتحقيق غايته إلا بتحطيم كيان الطرف الآخر وتكبيده خسائر مادية ومعنوية كبيرة لكي يحسم الصراع لأحدهما.
ولذلك فإن محاولة تنفيذ حلول الوسط لا يلغي هذا الصراع بل يحوله من حالة الصدام المكشوف إلى حالة الصدام المتواري والذي ينتظر اللحظة الملائمة محلياً ودولياً لينفجر بعنف أشد.
وبالتالي فإن محاولة طمس هذه البديهيات بالحلول الفردية والاستسلامية ما هي في الواقع إلا مثل السابح ضد التيار، فالصراع (العربي _الصهيوني) اتخذ الصبغة التاريخية، ولهذا يصبح من الصعب فرض حل لهذا الصراع بدون الأخذ بعين الاعتبار هذا المعضل الرئيسي.
فالصراع (العربي - الصهيوني) ليس اقتتالا بين مجموعتين مسلحتين (كما يحاول الغرب إيهام ضعاف النفوس من العرب)، وبالتالي فإن أي اقتتال يمكن حله سلمياً أو هو عبارة عن حاجز نفسي يمكن بتحطيمه أن يسود السلام بين أطراف الصراع، وإنما جوهر هذا الصراع أن الأمة العربية تدافع عن حقها في الوجود والبقاء ضد قوة صهيونية مسلحة تساندها قوى أخرى بهدف زرع الفكر الصهيوني محل القومية العربية والعمل على تشريد الشعب العربي بعد أن يمارس ضده جميع أنواع الاضطهاد والعنصرية والقهر.
إن أي تجاهل لهذه البديهيات والحقائق الواضحة بغرض الوصول إلى صيغة حل تلفيقي يمكن من خلاله فرض إمكانية التعايش مع الكيان الصهيوني المزروع في قلب الأمة العربية، عن طريق القوة وإجبار الجماهير العربية بالتكيف مع أهدافها ومكوناتها، ما هو إلا عبارة عن مجابهة محدودة وعاجزة عن حل التناقض العدائي القائم، ومحاولة فاشلة أساسًا ولا يمكن لها البقاء حتى وأن قُدِّر لها النجاح أثناء ولادتها العسيرة، لأنها تتناقض مع المسار التاريخ والحضاري لهذا الصراع.
وهكذا فإنه لا يمكن للأمة العربية إلا الاعتماد على إمكاناتها وقدراتها الهائلة والعمل على وضع إستراتيجية شاملة تسخر لها جميع مواردها وإمكاناتها المادية والبشرية والمعنوية لمواجهة هذا التحدي الحضاري المتمثل في الخطر الصهيوني العنصري والذي يعمل وينفذ مخططات العدوانية التوسعية وفقا لإستراتيجية واضحة ومعلنة ولا يبذل أي مجهود لإخفائها والتي يجب علينا معرفة أساسياتها حتى يمكننا التعرف على ملامح الإستراتيجية العربية الشاملة المطلوبة لمواجهة هذا العدو الشرس بنفس أسلحته وأٍساليبه.
ملامح وأساليب الإستراتيجية الصهيونية : -
الغاية الأساسية لوضع أي إستراتيجية هو رسم معالم التدابير الكفيلة لمواجهة تحدٍ معين في زمان ومكان محددين، ولذا فإن الإستراتيجية تستقى طابعها من طبيعة التحدي الذي تواجهه وهذا التحدي غالبا يتمثل في قهر إدارة الخصم بقصد إجباره على التخلي عما يسيطر عليه أو منعه من بلوغ ما ينوي السيطرة عليه.
وما دام الغرض الأسمى للإستراتيجية في كل الحالات هو قهر إرادة الخصم فمن الطبيعي أن يبدأ أي بناء استراتيجي من نقطة انطلاق حتمية وهي تحديد العدو ومعرفة إستراتيجيته والتنبؤ بغايته السياسية حتى يتم إعداد إستراتيجية مضادة تتناسب مع إستراتيجية الخصم وغاياته السياسية.
فلنبدأ بتحديد العدو الرئيسي للأمة العربية، بدون أي تردد، إن هذا العدو هو الكيان الصهيوني، ولكن الأمر الذي يجب أن ننتبه إليه هو أن هذا الكيان ذو مقومات مفتعلة وأن مقوماته تصدر أجزائها من الخارج ويعاد تركيبها فوق الأرض التي اغتصبها بالقوة، وأن هذا الكيان الدخيل في جسم الأمة العربية لا يملك أصلا الأسس الموضوعية أو التاريخية لتبرير وجوده، وبذلك يفقد أسس بقائه، ولكن مساندة قوى أخرى هي التي تعمل على بقائه واستمراريته، ولهذا فإن العدو الرئيسي للأمة العربية ليس فقط الكيان الصهيوني وإنما أيضاً القوى التي تعمل على بقائه واستمراريته .
والآن لنحاول التعرف على الغاية السياسية لهذا العدو، من المتعارف عليه أن الحركة الصهيونية بَنَتْ أساسيات حركتها العنصرية على الأرض، وجعلتها المحور الأساسي الذي يدور حوله جميع نشاطاتها ومخططاتها الاستيطانية الاستعمارية التوسعية، ولهذا يمكننا الجزم بأن الغاية السياسية والإستراتيجية لهذا العدو هي تحقيق إمبراطورية صهيون الكبرى أو ما يسمونه (حلم إسرائيل الكبرى)، وإذا عدنا إلى ما كتبه مؤسس الصهيونية (هرتزل )(1) في يومياته سنتعرف على حدود هذه الإمبراطورية أو الحلم، يقول (هرتزل) محددا هذه الحدود: (الحدود الشمالية هي جبال كبادويكا بتركيا والحدود الجنوبية هي قناة السويس والحدود الشرقية هي الفرات، أما شعارنا فهو فلسطين داوود وسليمان)، ومع مرور الوقت اكتشف الصهاينة أن تحديد حدود كيانهم الدخيل يجب أن يترك لمدى قدرتهم العسكرية، فيقول (بيجن) -في زمن التشتت العربي الذي نعيشه- (إن حدود دولة إسرائيل الكبرى تقف عند قدم آخر جندي إسرائيلي).
وهكذا فإن التوسع الاستيطاني وإنشاء ما يسمى إمبراطورية صهيون الكبرى هو الغاية السياسية الأولى في الإستراتيجية الشاملة للعدو الصهيوني والذي تندرج في إطاره وتعمل لخدمته بقية الأهداف والإستراتيجيات الأخرى.
ولتحقيق هذه الغاية وضع الكيان الصهيوني إستراتيجيته الشاملة والتي ترتكز على خمس عناصر وأهداف أساسية هي :-
- جعل باب الهجرة مفتوحا دائما.
- إقامة علاقة إستراتيجية مع القوة الغالبة في كل عصر.
- المحافظة الدائمة على التفوق العسكري في المنطقة.
- عدم التفريط في الأراضي المستولى عليها ولا اعتراف بأحقية أهلها فيها.
- القضاء على كل محاولة لجمع الشمل العربي والعمل على مجابهة الدول العربية منفردة.
وتستمد هذه الإستراتيجية قوتها من اتساق عناصرها مع التفكير الصهيوني في التوسع والردع وكذلك من طبيعة الكيان الصهيوني السياسي كامتداد للحركة الصهيونية العالمية المتشعبة في جميع أنحاء العالم وما تمثله الفكرة الصهيونية من عامل ضغط على اليهود في المهجر.
أما الخطة التي ينفذ بها الكيان الصهيوني هذه الإستراتيجية فهي مفتوحة للاجتهاد بحيث لا يمس هذا الاجتهاد المبادئ الأساسية للإستراتيجية أو يضر بالغاية السياسية، ولذلك نرى عدم تغيير سياسة الحكومات المتنوعة والمتعاقبة بالكيان الصهيوني، ربما تختلف في الأسلوب ولكن لا تختلف في الإستراتيجية والغاية، وهذا هو مصدر القوة الحقيقي للكيان الصهيوني.
ومن دراسة الصراع (العربي-الصهيوني) طوال السنوات السابقة نستطيع أن نستنتج أن الكيان الصهيوني يطبق نوع (الإستراتيجية الغير مباشرة) في هذا الصراع مستخدما عدة استراتيجيات مع بعضها البعض وتتناسق وتتكامل في النهاية من أجل تنفيذ العناصر الرئيسية للإستراتيجية الشاملة، وبالتالي يعمل على تحقيق الغاية السياسية مستخدما في ذلك القوة والقهر العنصري لحمل العرب على الخيار بين الرضوخ أو الرحيل بغية إقامة مجتمع صهيوني عنصري، ويعتمد في ذلك على تطبيق إستراتيجية القضم أو ما يعرف لدى العسكريين (بمناورة الخرشوفة)(2)، والتي تعتمد على تجزئة الهدف الرئيسي إلى عدة أهداف جزئية صغيرة والسعي إلى تحقيق كل هدف جزئي على حدا، وكأنه الغاية الأساسية النهائية والانطلاق بعد ذلك لتحقيق الجزء التالي استناداً إلى ما هو محقق بالفعل وأصبح واقعاً يمكن الارتكاز عليه في انطلاقه جديدة نحو هدف جزئي صغير آخر، وهكذا حتى يتم تحقيق الغاية السياسية.
أوجه القصور العربي في مواجهة الإستراتيجية الصهيونية:
يعاب علينا نحن العرب أننا نتناول أغلب جوانب حياتنا وفقاً لرؤية جزئية غير شاملة مما يجعلنا ننظر لكل موقف يواجهنا على أساس أنه منقطع الصلة من باقي الأحداث والمواقف التي سبقته أو التي تلحقه، وبالتالي تكون نتيجة مواجهتنا للمواقف بهذه الرؤية الجزئية إحدى احتمالين اثنين وكلاهما في غير صالحنا.
الاحتمال الأول: حدوث قصور في مدى تأثير المواجهة وبالتالي الفشل في ردع الخصم في تنفيذ مخططاته.
الاحتمال الثاني: الحصول على نجاح جزئي في وضع حد لمخطط الخصم سرعان ما يتمكن من استيعابه ويكرر الهجوم بعد تعديل مخططه وتصحيح الثغرات التي سبق اكتشافها فيه.
وهذا ناتج عن عدم وضوح الرؤية للفكر الإستراتيجي في عالمنا العربي وقصوره، وهذا القصور ليس نظريا أو فكرياً وإنما عملياً وقيادياً.
إن الخلط الذي أحدثته القيادات العربية بين ما هو ثانوي يمكن الاجتهاد فيه والاختلاف في حدوده وبين ما هو رئيسي وأساسي لا يمكن المساس به أدى إلى خلط الأولويات، وأصبح من الصعب التمييز بين ما هو رئيسي يجب حشد جميع الطاقات من أجل تحقيقه وما هو ثانوي يمكن تأجيله.
ومن المؤسف القول إن القيادات العربية اهتمت بالأمور الثانوية فتفجرت صراعات جانبية تورطت فيها الجماهير العربية أجهضت طموحاتها وأضرت بالقضية الرئيسية والمركزية للأمة العربية وهى قضية الصراع العربي ضد الصهيونية، وهذا هو في اعتقادي مصدر الضعف من الجدار العربي المواجه إستراتيجية الكيان الصهيوني.
ولابد أن المفكر الاستراتيجي البروسي الجنرال (كارل فون كلاوزفيتز) يتقلب في قبره... فقد قال: (إن كل ما يتعلق بالإستراتيجية بسيط, ولكن ليس سهل التحقيق, وإن النجاح يعتمد على المزج بين الغايات السياسية (الأهداف) والقوة العسكرية (الأداة) والموارد المتاحة (السُّبُل)، كما شدد على أن الإستراتيجية يجب أن تكون قادرة على التطور والتكيف وفق تغير الظروف).
لكن وللأسف فإن الإستراتيجية العربية تتمرد على هذه الأسس المنطقية، فليس ثمة غايات واضحة, والنتائج المنشودة غائمة, والموارد بخيلة, وكل ذلك سيحد من السبل الممكنة من أجل تطبيقها.
أسس الإستراتيجية العربية الشاملة المطلوبة:
إن أي دعوة لبناء إستراتيجية عربية واحدة (والدعوات اليوم إليها كثيرة وعلى كل لسان) لابد أن يسبقها تحديد الغاية من هذه الإستراتيجية، فالتضامن العربي والتنسيق والقيادة الواحدة وبناء الجبهات والتكامل الاقتصادي وسياسية التسليح وغيرها تعتبر بلا شك أمورًا هامة وأساسية ولكنها تأتي في المرتبة الثانية، فهذه الأمور بالرغم من أنها أساسية لبناء الإستراتيجية الشاملة ولكنها تفصيلات يمكن تركها للخبراء والمتخصصين لاحقاً، والأهم منها في بداية الحديث عن بناء أي إستراتيجية هو تحديد غايتها وأهدافها الإستراتيجية والاتفاق المبدئي عليها.
فالأمة العربية وحتى يومنا هذا لم تحدد ما هي الغاية السياسية والأهداف الإستراتيجية لها.. وعندما تغيب الغاية والهدف الإستراتيجي يصبح من الصعب الاتفاق على الأساليب والخطط السياسية والعسكرية والاقتصادية والتي من المفروض أن تصل بنا إلى تحقيق هذه الإستراتيجية المطلوبة.
قد يحتج القارئ على ذلك قائلا بأنه قد سبق للأمة العربية تحديد غايتها، والقارئ على حق في احتجاجه هذا، فمما لا شك فيه أن الأمة العربية قد حددت غايتها السياسية مع بداية تنامي الوعي القومي العربي، ولكن هذا التحديد كان ضعيفاً ولم يكن أساساً قوياً لبناء إستراتيجية شاملة وذلك لسببين: أولهما هو أن تحديد الغاية لم يكن ثابتا ولكن متغيراً، فمن إزالة الكيان الصهيوني إلى تحرير فلسطين إلى تحرير الأراضي المحتلة وأخيرا الأرض مقابل السلام، وعلى الرغم من التشابه اللفظي بينها إلا أن مضمون كل منها يختلف على الآخر وبالتالي فإن الإستراتيجية التي تُبنى على أساس كل منها تكون مختلفة عن الأخرى.
والسبب الثاني هو أن هذا التحديد لم يتعدَّ كونه مجرد شعار مرفوع ولم يقترن بالتطبيق، ولذلك لا يقوى على تحمل أعباء بناء إستراتيجية شاملة على أساسه.
ولهذا نجد أن لكل قطر عربي إستراتيجيته الخاصة والتي للأسف تكون في أغلب الأحيان متناقضة مع بعضها البعض، ولذلك يصبح من الصعوبة بمكان وضع إستراتيجية شاملة للأمة العربية إلا بعد أن يتم توجيه جميع القيادات العربية نحو اتجاه واحد ووفقا لرؤية شاملة وموحدة وهدف وغاية واحدة.
فإذا افترضنا حسن النية لدى القيادات العربية وأنه تم اتفاقها على غاية واحدة فإننا نستطيع أن نتلمس ملامح هذه الإستراتيجية الشاملة لمواجهة هذه التحديات التي تواجهها الأمة العربية وبالتالي يمكننا وضع عناصرها بناء على ما سبق توضيحه في الجزأين السابقين من هذا البحث.
عناصر الإستراتيجية العربية الشاملة:
سبق لنا القول إن أي قرار استراتيجي يتوجب أن يتوفر فيه ثلاث عناصر أساسية هي الغاية والإستراتيجية والخطة.
أولاً الغاية السياسية للأمة العربية:
يجب على الإستراتيجية العربية الشاملة أن تبنى أساسها على الغاية السياسية للصراع العربي -الصهيوني، ونستطيع أن نقول أن الغاية تتحدد في الآتي:
( إنشاء دولة فلسطينية عربية ذات سيادة يديرها أبناء الشعب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية، والانسحاب لحدود قبل 5يونيو1967م وإنهاء الاستيطان الصهيوني داخل هذه الحدود، وتطبيق حق اللاجئين سنة1948م بالعودة، وهذه الدولة لا تستهدف إبادة اليهود بل تستهدف القضاء على الاحتلال العسكري الصهيوني وعلى الطابع العنصري للسياسة الصهيونية)، وهذه الغاية السياسية هي محتوى ومضمون مبادرة السلام العربية بهذا الشأن والمتفق عليها من جميع الدول العربية.
إن تجسيد هذه الغاية السياسية ووضوحها كفيل بحشد كل الطاقات العربية وبالتالي تعمل على تزايد وأهمية هدف الصراع واتخاذه طابعًا مصيريًا حاسمًا لا تنازل عنه ولا نقاش فيه، بحيث يشمل كل الأمة العربية ويجعل من إرادة المواجهة قوةً ذات تأثير بالغ الأهمية في مواجهة الإستراتيجية الصهيونية المعادية.
لا شك أنه كلما كانت الغاية السياسية مجسِدة لآمال وطموح كل فرد من الأمة العربية ومحددة للأخطار التي تهدده وموضحة لأهداف العدو وغاياته كلما تحولت هذه الغاية إلى طاقة هائلة لدى الفرد العربي العادي تدفع به إلى تحقيق هذه الغاية بكل إمكاناته وقدراته.
ثانيا الإستراتيجية العربية:
إن المهمة الرئيسية للإستراتيجية تنحصر في وضع تصور عام للتعامل مع المعضلة التي تواجهها، وتتولى مسئولية تحديد الأهداف للإستراتيجيات الفرعية، وتؤَمِّن عملها بشكل هرمي بحيث تصل في النهاية إلى تحقيق الغاية السياسية.
إن نوعية الصراع (العربي - الصهيوني) تفرض على الإستراتجية العربية الشاملة الأخذ بنوع الإستراتيجية المباشرة كاتجاه لتحقيق غاياتها السياسية، وتنحصر ملامح الإستراتيجية العربية في حشد جميع الإمكانات المادية والبشرية والمعنوية لتحقيق الأهداف التالية:
- هزيمة العدو الصهيوني (سياسيا وليس بالضرورة عسكريا)، وقيام الدولة الفلسطينية، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية تضمن التفوق السياسي والاقتصادي الساحق كماً وكيفاً على العدو.
- الدفع بالمواطن العربي لتحمل مسئولياته في هذا الصراع وتعميق الإحساس لديه بعدم تكامل حريته بدون تحقيق غاية الأمة العربية، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية سياسية تهدف لقيام ديمقراطية حقيقية أساسها الثقة بقدرات الفرد العربي وإمكاناته.
- التشبث بالأرض وتأكيد الهوية الفلسطينية لأنهما العنصران اللذان يؤكدان الصفة التاريخية والحضارية لهذا الصراع، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية إعلامية ومعنوية تعمل على ترسيخ الصفة التاريخية لهذا الصراع وإبرازه على أنه (تحدٍّ حضاري) يتوارثه الأبناء عن الآباء حتى لا يُطمَس الصراع في خضم تراكم السنوات والصراعات الأخرى.
- قيام تنمية عربية مستقلة ومتحررة من كافة أنواع التبعية، وهذا يتطلب وضع إستراتيجية اقتصادية متكاملة تهدف إلى الاعتماد على الذات العربية وتحرير القرار العربي من أي تبعية اقتصادية أو سياسية.
- إيجاد مساندة سياسية متينة من بقية دول العالم وقوى التحرر العالمية وهذا يتطلب وضع إستراتيجية دبلوماسية تضمن ظهور علاقة إستراتيجية قوية مع دول العالم الثالث والدول التقدمية، وتعمل على تحييد الدول الغربية في هذا الصراع.
ثالثًا الخطة:
إن الخطة تشمل كافة القضايا الثانوية التي لا يُفسِد فيها الاجتهاد أو حتى اختلاف وجهات النظر المسارَ العام للإستراتيجية أو المساس بالغاية السياسية. ويمكن القول إن الخطة هي مجال الاجتهاد المفتوح على مصراعيه أمام القيادات العربية بشرط عدم الإضرار بالإستراتيجية الشاملة أو الغاية السياسية للأمة العربية.
وبمعنى أوضح نقول: إن للحكام العرب إمكانية الاجتهاد في وضع الخطط الخاصة بدولهم على الكيفية التي يرونها بشرط عدم الحياد عن الغاية السياسية للأمة العربية وعدم الإضرار بالإستراتيجية العربية الشاملة، مع مراعاة توفر الشروط اللازمة والتي تعمل على نجاح تنفيذ هذه الخطط.
خـــــاتمة...
إن انتصار أمتنا العربية ليس حلماً يصعب تحقيقه، وإن هزيمة الكيان الصهيوني سياسيا وليس بالضرورة عسكريا ممكنة، بل هي الممكن الوحيد من أجل استقرار الأمة العربية ونموها وازدهار أجيالها القادمة، تلك الأجيال التي تملك طاقات وقدرات هائلة لم يدركها حكام هذه الأمة بعد.. ولكن هذا لا يمكن تحقيقه إلا بعد أن تعي الجماهير كافة الأخطار التي تهدد وجودها وبعد أن تنتبه إلى الحقيقة الوحيدة الثابتة وهي أنها لا يجب أن تدع قضاياها المصيرية حكراً على اجتهادات فردية.
فالأمة العربية في هذا العصر وتحت هذه الظروف في أمس الحاجة إلى الاستناد على العلم والتفكير الاستراتيجي والبحث المستقبلي، والتي تكون نتائجها معبرة عن النبض العام للمواطن العربي وليست انعكاسا لآراء فردية واجتهادات خاصة من طرف الحاكم العربي.
وقد يلاحظ القارئ الفاضل أن الحديث في هذا الجزء من البحث أخذ شكلَ الحديث السياسي بدلا عن التحدث في عمق الإستراتيجية نفسها، وهذا يؤيد ما سبق التأكيد عليه في الجزأين السابقين من الارتباط الوثيق بين الإستراتيجية والسياسة وخضوع الأولى للثانية في جميع مراحل الإعداد والتخطيط والتنفيذ.
وختاماً نقول: إن الطريق الأمثل والأوحد لتحقيق طموحات وآمال الأمة العربية، ولتنفيذ الإستراتيجية الشاملة لتحقيق الغاية السياسية للأمة العربية، وللقضاء على السلبيات الناتجة عن اختلاف الخطط الموصلة إلى الغاية المطلوبة، هو بلا أدنى شك أو تردد طريق التكامل العربي سياسيا واقتصاديا وعسكريا وصولاً إلى الاتحاد العربي الموحد.
ومن أجل تحقيق الغاية السياسية العربية يجب على الجماهير العربية تحقيق الهدف الأول لها وهو التكامل العربي بأي صيغة أو مفهوم يتم الاتفاق عليه، خاصةً بعد أن فشل الحكام العرب في وضع أقدامهم على البوابة المؤدية إلى تكامل نجاح الإستراتيجية العربية الشاملة والموصلة إلى تحقيق الغاية السياسية للأمة العربية.
إن تحقيق التكامل العربي سياسيا واقتصاديا وعسكريا يجب أن يشكل الحافز الأساسي للعمل الجِدي للجماهير العربية لإعادة الأمور الشاذة في أمتنا العربية إلى وضعها الطبيعي، لأن تحقيق الغايات المصيرية لا ينزل من السماء ولا يخرج من باطن الأرض إنما تصنعه أيدي العاملين المخلصين من جماهير هذه الأمة العظيمة وتلك سنة الله عز وجل في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
هــــــوامش
1. تيودور هرتزل:
صحفي نمساوي يهودي ولد عام 1860م، يعتبر المؤسس الفعلي لما يعرف الآن بالحركة الصهيونية الكبرى، والتي حدد مبادئها في مؤلفاته بجمع اليهود وتوطينهم في دولة يهودية عنصرية خالصة، وكان قد بدأ في عام 1879م في عقد مؤتمرات سنوية لأقطاب اليهود في العالم وتمخضت هذه المؤتمرات على ما اشتهر باسم (مقررات حكماء صهيون)، وعلى ضوئه تكّون التنظيم الحديث للصهيونية العالمية الجامع لكل قوى الشر والحقد في العالم والتي لا تتورع عن شيء في سبيل تنفيذ مخططاتها المدمرة لجميع أجناس العالم.. وتوفي عام 1904م حيث استلم من بعده (وايزمان) الذي تحالف مع بريطانيا وانتهى هذا التحالف بوعد بلفور المشئوم باغتصاب فلسطين العربية.
2- مناورة الخرشوفة:
يتم استخدام هذا النوع من المناورة أو التحرك في مختلف المجالات السياسية والعسكرية وغيرها عندما تكون الإمكانات والقدرات المتاحة أقل من الهدف النهائي المراد تحقيقه أو عندما تكون الظروف المختلفة غير مواتية أو تكون المقاومة المتوقعة كبيرة وتعرقل تحقيق هدف الإستراتيجية في شكلها النهائي.
الخــــــــلاصة:
إن ما يمكننا استخلاصه من هذا البحث بأجزائه الثلاثة هو أن الإستراتيجية لها جذور تاريخية بعيدة، وأنه كانت بداياتها ذات اتجاه عسكري إلا أنها تطورت وتشعبت وتعدد استخدامها لتشمل جميع مجالات الحياة بهذا العصر، وأدى ذلك إلى وضع مفهوم عام لها وتم تأسيس مستويات لتحديدها دون أن يؤدي ذلك لتجميدها في إطار عقيدة واحدة، لأن الإستراتيجية في جوهرها عبارة عن (أسلوب في التفكير) وفي مضمونها (علاقة بين وسائط وغايات)، ولذلك توجب ارتباطها بالسياسة، حيث أن تحديد الغايات من مهمة السياسة أصلاً.
كما أن الإستراتيجية يتم وضعها بقصد مواجهة تحدٍ سواء كان هذا التحدي سياسياً أو عسكرياً أو اقتصاديا، وتظل الإستراتيجية فكراً وعملاً أكاديمياً إذا لم تقترن بخطة لتنفيذها، فالفكر شيء وتنفيذه شيئاً آخر، ويقاس نجاح الإستراتيجية فيما يمكنها تحقيقه في دنيا الواقع، فمن السهل رسم إستراتيجية معينة لمواجهة تحدٍ ما يتعرض له المجتمع، ولكن التحدي الحقيقي للإستراتيجية هو تحويل هذا التصور إلى واقع ملموس يستطيع مواجهة الإرادات المتعارضة ويقف بصلابة في مواجهة المعضلات الصعبة التي وضعت الإستراتيجية من أجلها، ولذلك يتوجب ارتباط الإستراتيجية بالخطة التي تحيل الإستراتجية إلى أشياء مادية ملموسة على أرض الواقع.. وعليه فإن أي قرار لا يمكن وصفه بالإستراتيجي إلا إذا اكتملت عناصره وهي (الغاية والإستراتيجية والخطة).
إن الإستراتيجية في العصر الحديث لم تعد أمراً ثانوياً بل أصبحت ضرورة حتمية وتشكل النواة الأولى لأي انطلاقة منظمة نحو تحقيق الغايات المصيرية في جميع مجالات الحياة بأي مجتمع لأنها تستوعب دروس الماضي وتدرس معطيات الحاضر وتتنبأ بتطورات المستقبل لتستخلص منها منهج عمل منظم ومحدد لتحقيق الغاية المرسومة. وحيث أن الأمة العربية في هذا العصر تواجه تحدٍ حضاري مصيري لا مثيل له، تحدٍ يهدد كيانها ووجودها وعقيدتها، لهذا يبرز السؤال الملح الذي ينتظر الجواب: (هل تتصدى الأمة العربية لهذا التحدي الحضاري والمصيري كما يجب لها أن تتصدى وكيف؟).
يقول (ادموند بورك) وهو أحد الفلاسفة المشهورين (إن كل ما تحتاج إليه قوى الشر لكي تنتصر هو أن يظل أنصار الخير مكتوفي الأيدي دون القيام بعمل ما) ولعل في هذا القول ما يشير إلى أن على قوى الخير المتمثلة في جماهير الأمة العربية أن تفعل شيئاً لإنقاذ حقها وأرضها وعقيدتها ولكي تحرم قوى الشر المتمثلة في الصهيونية من تحقيق غاياتها