يعتبر روادُ النظرية الواقعية أن التنافسَ أساس تفاعل الدول داخل النظام الدولي ، في حين يعتبر منظرو الليبرالية أن التعاونَ هو أساس النظام الدولي، ولقد عرّف مؤلف كتاب " القوة الناعمة " جوزيف ناي القوة بمجموع القدرات اللازمة للتأثير في
سلوك الغير، وقد توظّف بعض الدول قوة الجاذبية والإقناع بدلاً عن القوة المادية أو الإرغام في تحقيق أهدافها ومن الامثلة أيضا تصنيف " ديفيد ماريس " الدول إلى أربعة مجموعات قوى عظمى وهي الدول التي تمتلك القدرة على تغيير ميزان القوى في النظام الدولي والدول الثانوية وهي الدول التي تستطيع التأثير في النظام الدولي دون تغييره ، والدول المتوسطة وهي الدول التي تستطيع التأثير في النظام الدولي من خلال مشاركتها ضمن تحالفات أوسع مع دول أخرى وأخيراً الدول الصغيرة وهي الدول التي تضطر للمشاركة ضمن تحالفات مع دول أكبر منها من أجل امتلاك بعض التأثير في النظام الدولي وهنا فإن مصطلحي القوى المتوسطة والقوى الإقليمية يستخدمان بشكل متبادل في أدبيات العلاقات الدولية ، أمّا " باري بوزان " و " أولي ويفر " فقد اعتمدا مبدأ " القوة النسبية " أساساً لتعريف وتحديد حيّزين من القوى في العالم ، حيث الحيّز الأول على مستوى النظام الدولي وهو مكوّن من قوى عظمى ، وأخرى كبرى والحيّز الثاني على مستوى الأنظمة الإقليمية وهي مكوّنة من قوى محلية ذات قوة متوسطة ، تنمو قدراتها ضمن أقاليمها المعنية وتلعب أدواراً مهمة في تشكيل وإدارة ديناميكية الأمن والسياسة الإقليمية دون القدرة على التأثير في الحيز الأول من النظام الدولي .
كان التركيز على دراسة النزعة الاقليمية من منظور المؤسسات والتنظيمات فقط خلال اواسط القرن الماضي حيث تم ايجاد تعريف مقارب للإقليمية من خلال عـدّة عناصر مهمة ومؤثرة وصانعة لها وهي وجود تجارب تاريخية مشتركة والشعور المشترك بالمشاكل والتحديات وكل ذلك يكون بين مجموعة بلدان أو مجتمعات متميّزة جغرافيّا وقد يتطوّر الى نوع من وحدة المصير ، هذا يعطي بشكل فعال تعريف للإقليم مع وجود روابط وحدود تمنحه تفاعلات داخلية أكثر شدة من تلك التفاعلات مع العالم الخارجي ، ومع بروز التنظيم يعطي للإقليم شكلاً ومعنى قانوني ومؤسسي فالنزعة الاقليمية لها ارتباط وثيق بالتكامل الاقليمي حيث تفيض وتعبر المصالح والتطلعات الحدود الوطنية والقومية من خلال الامن الاقليمي وحوافز أخرى سياسية واقتصادية وثقافية ، من هنا برز الدور الاقليمي المنفرد والرغبة في الرّيادة والتميّز .
الولايات المتحدة الامريكية تحتاج وترغب من ينوب عنها ويخدم مصالحها طوعا أو بطريقة غير مباشرة ويعود ذلك الى القائم بالدور والساعي وراء تصدّر المشهد السياسي الاقليمي ، فالدول تعمل وفق سياسات تتبنّاها وتسعى من وراءها الى تبوّء المكانة ولعب دور إقليمي وبالتالي إمرار وترسيخ مصالح اللاعب الدولي " الولايات المتحدة الامريكية" وفي هذا الاطار سنشهد منافسة شرسة ومن ثمّ تفوّض تلك القوّة اللاعب المناسب وتحجّم وتغضّ الطرف عن الاقل نفعاً.
ايران وتركيا صراع أم توافق : تُعتبر كل من تركيا وإيران دولتان إقليميتان حظيتا على مدار تاريخهما الحديث بأدوار محورية في صياغة النظام الأمني والسياسي لمنطقة الشرق الأوسط فعلى سبيل المثال لا الحصر أثّرت كل من سياسة " تصفير المشاكل مع الجيران " التركية وبرنامج إيران النووي على شكل التحالفات الإقليمية وعلى توازن القوى في المشرق وتتبنى كل منهما خطاباً سياسياً خاصاً متمايزاً تسعى من خلاله لتعزيز مساحة نفوذها الإقليمي . فعلى الصعيد الأيديولوجي تتبنى تركيا نموذج ديمقراطي غربي وبإطار اسلامي تسعى للتبشير به في المنطقة ، وتتبنى إيران نموذج ثيوقراطي " ولاية الفقيه " تحاول تصديره إلى جيرانها ، وتتنافس كلتا الدولتين في تغليب عقيدتها السياسية الخاصة لصياغة هوية اقليمية مع عدم إغفال البعد الطائفي والعرقي الذي أضاف مركّباً جديداً على حسابات العداوة والصداقة بين الدول الإقليمية .
وعلى الرغم من احتدام التنافس بين أنقرة وطهران في المنطقة ، ورغم وقوعهما في محاور إقليمية ودولية متباينة إلّا أنهما تجنّبتا المواجهة المباشرة بينهما حتى الآن وذلك إدراكاً منهما أن أي مواجهة مباشرة من شأنها أن تضرّ بمصالحهما معاً ، فتوصلتا معاً إلى أرضيات عمل مشتركة كالعمل على حل أزمة البرنامج النووي ومواجهة الحركات الانفصالية الكردية وسعيهما الأخير في التوصل إلى صيغة اتفاق وقف إطلاق نار في سورية بالتشارك مع موسكو في مسار الآستانا ولكن لا يلغي وجود هذا " التفاهم " جنوح إيران المستمر للتوسع بشكل أكبر وأعمق على حساب تركيا في المنطقة وبشكل أخص في العراق وسورية .
السعودية ومجلس التعاون : الدول الخليجية والاخت الكبرى السعودية لم يتسنّى لهم لعب الدور الاّ وفق منظمة مجلس التعاون الخليجي وضمن مواقف وسياسات مجتمعة وذلك لأسباب تاريخية وبسبب سياسة الاعتماد الكلي والمباشر على الولايات المتحدة الامريكية ، وبعد توالي الاحداث وإيجاد المساندة والدعم من أطراف وقوى اقليمية أمكن للسعودية أن تلعب أدوارا كبرى في ظل تمتّعها بالمكانة الدينية والاقتصادية الداعمة ، ولقد كان لأعضاء مجلس التعاون بالإضافة الى دول حليفة " مصر والباكستان " دور محوري من خلال قوة درع الجزيرة مقترح تشكيل قوة عربية مشتركة والتحالف الدولي العربي ونجاح المؤتمر العالمي " الاسلام ومحاربة الارهاب" في فبراير الماضي ، ان دول مجلس التعاون إرتأت دائما أن تكون في الخلف وأن تحرّك خيوط اللعبة خلف الستار مع الاقرار ببعض التنوّع والتباين خاصة وأن القائد مرتبط بنفس المصير وله ذات الطموح ، عدا المتمرّدة قطر والتي لها طموحها ورؤيتها ، ولكن ورغم سياسة ادارة المحاور التي تتبعها ، تنحسر أهميتها في الدعم اللوجستي من خلال التواجد العسكري الامريكي فقط .
الدور المصري : مصر تستمد قوتها الاقليمية من الموقع الجغرافي والدور التاريخي والمصلحة الحيوية وقد تراوحت فاعلية دورها بين القوّة والضعف وخلال فترات مختلفة ولكنها ظلّت المحور والمرجع والسند لإمرار الحلول والسياسات ، حيث الظروف الداخلية والاوضاع الاقليمية والدولية تظل البندول والمؤثر على السياسة المصرية وبالتالي دورها كخادم مطيع أو طرف متمرّد له مطالبه واستقلاليته ، مصر لها رؤيتها وقد صقلتها التجربة وأيضا مُنحت ميزة النفس الطويل وبذلك استطاعت فرض ذاتها اقليميا ويظل حسم تفويضها مرهون بظروف الموقف والازمة
الحالة الاردنية : الاردن لها ظروفها الخاصة فهي دولة مواجهة وذات اقتصاد ضعيف جداً يعتمد المساعدات الاقليمية والدولية مقارنة مع اقتصادات المنطقة ، أيضا احتفاظها بنوع من التوازن في علاقاتها مع محيطها ومع كثير من اللاعبين الدوليين ، كل ذلك جعلها تعتمد سياسة المجاملة وصارت محور اعتدال وقناة للتواصل وعرّابًا لعديد المشاريع والتوافقات ، ان فوضى الاقليم وبروز أطراف جديدة تعمل على لعب دور بعيدا عن التوافق والعمل الجماعي بل وازاحة وتحطيم كل طرف آخر كل هذا ساهم كثيرا في غياب وحدة وتنسيق الجهود والعمل العربي خصوصا . ولكن تظل للأردن مكانته وما يميّزه بسبب ما يتمتع به من ثقة ومصداقية لدى كثير من اللاعبين الدوليين وخاصة الولايات المتحدة الامريكية .
من المعلوم أن دولة الكيان الصهيوني هي أيضاً ضمن اللعبة الاقليمية ولكنها خارج حسابات التفويض ، ورغم ذلك لديها مبادرات ورغبة في المشاركة وتحاول تقديم نفسها كرمز وواحة للسلام والديمقراطية وحقوق الانسان !!
أخيراً : هناك الكثير من المشاكل التي تطرحها دراسة العلاقات داخل الاقليم تتعلق بدور الدول ونشاطها فيه من حيث كونه مقيّدا أو في أقصى حالاته واختلاف رؤية الحكومات وتوجهاتها " يقول نيكسون في كتابه " الفرصة السانحة " ( إن سياستنا في اختيار الشريك المناسب لن تؤتي ثمارها بسرعة ولكن خلال جيل واحد يمكن للولايات المتحدة أن تصل الى تأثير عميق ودون تدخّل وعلينا في الوقت نفسه أن لا نبالغ في علاقاتنا مع "الدول التقدمية" حتى لا تكون هذه العلاقة هدفا للناقدين ) ، لذلك نحن نقول تظل مسألة التفويض التي نحن بصددها مثار جدل وهدفا لمحاولات إيجاد مقاربة نستطيع بمفاهيم السياسة والإستراتيجيا تفكيك وترجمة غموضها وتقييم وجهات النظر حيالها.