في عام 1947م قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين - التي كانت آنذاك تحت الانتداب البريطاني - إلى دولتين إحداهما عربية والأخرى لليهود، لكنها جعلت للقدس وضعاً خاصاً، واقترحت بقاءها تحت إدارة دولية مع بيت لحم القريبة منها
باعتبارهما كيانا منفصلاً تديره الأمم المتحدة، وعندما انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1948م قام بتسليمها للكيان الصهيوني؛ وفوراً قامت القوات الأردنية بالسيطرة على المدينة القديمة والقدس الشرقية في ذلك الوقت، وفي عام 1967م وأثناء حرب يونيو حزيران استولت القوات الصهيونية على القدس الشرقية من الأردن، وضمتها إليها في خطوة لا تحظى بأي اعتراف على المستوى الدولي، حيث تؤكد الأمم المتحدة في قراراتها على أن القدس الشرقية هي أرض محتلة، وهي موضع نزاع إلى حين تسويته خلال المفاوضات، وأن للحكومة الأردنية دور في إدارة شؤون هذه الأماكن الإسلامية المقدسة .
ومنذ احتلال فلسطين عام 1948م تواجه العديد من المدن والقرى الفلسطينية وخصوصاً القدس حملات ممنهجة من قبل الكيان الصهيوني وحلفائه تستهدف هويتها الاسلامية والفلسطينية، حيث أصدر الكونغرس الأمريكي وبضغط من اللوبي الصهيوني تشريعاً يقضي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة عام 1995م، إلا أنه لم يُنفذ من قبل الرؤساء الأمريكيين السابقين ، وفي 6 ديسمبر من عام 2017م، وفي خطوة غير مسبوقة أعلن الرئيس الأمريكي ( دونالد ترامب ) أن القدس بشقيها الشرقي والغربي هي عاصمة لإسرائيل، وفي 14 مايو من عام 2018م تم افتتاح السفارة الأمريكية في القدس .
ونتيجة لهذه الخطوة ورغم كل ما تحمله من تهديد لمستقبل القضية الفلسطينية، بل وما تبعها من محاولات للإدارة الأمريكية الحالية لتصفية قضية فلسطين؛ إلا أن الأكثر خطورة هو موجة التطبيع الجديدة التي بدأت تتعامل بها العديد من الدول العربية تجاه الكيان الصهيوني، وكذلك انجرار قادة بعض الدول التي تدور في الفلك الأمريكي إلى التماهي مع موقف إدارة الرئيس ترامب من القدس ، ونقل أوالتلويح بنقل سفارات بلدانهم إليها .
وسيتم تسليط الضوء في هذه الورقة على السياسات الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية ، وذلك بتواطؤ العديد من الأطراف، والتي يسعى كل منها إلى غاية يريد تحقيقها على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته التاريخية .
أولاً : سياسات الإدارة الأمريكية الضاغطة باتجاه التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني :
بما أن إدارة ترامب قد اعترفت بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ، فهي بذلك تدفع بقوة في اتجاه المشروع الأمريكي الصهيوني الجديد، المعروف ( بصفقة القرن ) ، والذي يحوي في جوهره اعترافات دول عربية واسلامية بدولة اسرائيل كأمر واقع ، مقابل حصول أنظمة هذه الدول على ضمانات البقاء، مع العديد من التفاصيل الأخرى في هذه الصفقة الكارثية، حيث انخرطت أنظمة العديد من الدول العربية فعلياً في تنفيذ هذا المشروع، وإن اختلفت وتنوعت أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني ؛
حيث شهدنا هذا العام زيارة علنية لرئيس وزراء الكيان الصهيوني إلى سلطنة عُمان في سابقة لم تحدث من قبل، وذلك بحجة بحث السلام في المنطقة، ولتقريب وجهات النظر بين طرفي الصراع الفلسطيني والاحتلال الصهيوني، وزيارة أخرى لوزيرة الثقافة الصهيونية لدولة الإمارات العربية ومرافقتها لوفد رياضي، وزيارتها لمسجد الشيخ زايد في أبوظبي ! وكذلك زيارات أخرى لقطر وتصريحات من شخصيات بحرينية تنادي بالتطبيع مع الصهيونية، كما أن التقارير الصحفية الدولية تتحدث عن وجود اتصالات سرية بين حكومة الكيان الصهيوني، وأطراف تمثل حكومة المملكة السعودية، وتتمحور هذه الاتصالات حول التنسيق في الجانب الأمـني، ومما يدعم هذا القول هو ذلك التعاطف الذي أبداه رئيس الوزراء الصهيوني ( نتنياهو ) تجاه حكومة السعودية ، بعد تعرضها لضغوط هائلة بغية الكشف عن ملابسات جريمة قتل الصحفي ( جمال خاشقجي ) في قنصليتها بتركيا ، حيث أكد نتنياهو على أن أمن واستقرار النظام في السعودية هو أمر مهم لدولته وللمنطقة ! كما أنه لا يُستبعد أن نشهد قيام تحالف بين الكيان الصهيوني مع النظام في السعودية ضد إيران، في ظل التوتر المتصاعد بين الرياض وطهران، والغريب في الأمر هو أن التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني يأتي في الوقت التي يتعرض فيه أبناء الشعب الفلسطيني لأحد أعنف موجات التجويع والحصار في غزة، وقتل للأبرياء بالقصف الجوي المدمر، والاستمرار في الاستيطان ومواصلة العمل على تهويد المسجد الأقصى !
فهل الاستمرار في حكم الشعوب العربية هو الثمن الذي ستقبضه الأنظمة مقابل تنازلها عن كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ؟!
ثانياً : سياسات الإدارة الأمريكية الحالية لتصفية القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي :
وهي الخطوة الثانية التي انتهجتها إدارة ترامب ، حيث قامت بتقليص المساعدات الانسانية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( أونوروا ) ومن ثم الغت هذه المساعدات بالكامل، كما أنها تعمل حالياً على إلغاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين ! وهو الحق التاريخي الذي أقرته الامم المتحدة بناءً على القرار رقم 194، وقد ذهبت هذه الإدارة مؤخراً إلى محاولة تمرير مشروع قرار أمريكي أوروبي في الجمعية العامة للأمم المتحدة يُدين حماس في مواجهتها للعدوان على قطاع عزة، ولكن عدم اقتناع العالم ورفضه المطلق لفرض الإملاءات وتزوير الحقائق الذي تمارسه الولايات المتحدة الامريكية ؛ أوقف تمرير هذا القرار .
وعلى صعيد دولي آخر فإنه من الجدير بالذكر القول بأن عودة الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى تسلّم مقاليد الحكم في بعض بلدان أمريكا اللاتينية والبلدان الغربية وأستراليا ، وانجرار بعض الدول الإفريقية للحصول على المساعدات والهبات المادية؛ أدى إلى المزيد من تقارب هذه الدول مع المشاريع الصهيومسيحية حول العالم ، فقد أعلنت دولة ( البارغواي ) عن نقل سفارتها إلى القدس تماشياً مع الخطوة الأمريكية إلا أنها تراجعت عنها فيما بعد ، وهي تتعرض حالياً لضغوط أمريكية لإعادة سفارتها للقدس ، وبعد وصول الرئيس البرازيلي اليميني ( جائيير بولسوناروا ) إلى سدة الحكم في بلاده وهو الموصوف بالترامبية السياسية ؛ أعلن في العديد من المناسبات عن اعتزامه نقل سفارة بلاده إلى القدس كونه أحد المعجبين بسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، إلا انه لم يستطع تنفيذ وعوده إلى حد الآن ، لوجود العديد من القوى المعارضة لهذا القرار في البرازيل ، وهناك أيضاً دولة غواتيمالا ، وبعض الدول اللاتينية الأخرى الصغيرة والتي قد تجد نفسها مضطرة للرضوخ أمام الضغط الامريكي، كما أن دولة إفريقية مثل تشاد قد فاجأت الأوساط السياسية الدولية بزيارة رئيسها ( إدريس دبي ) لتل أبيب ، وهو ما يُعد اختراقــاً سياسيـاً قوياً تدفع باتجاهــه كل القوى صاحبــة المصلحة في الظفر بنصيبها من صفقة القرن المشؤومة .
ختــــامــــاً :
إن إقامة العلاقات أو التقارُب مع الاحتلال الصهيوني على حساب حقوق الفلسطينيين يُعتبَر خطأً تاريخياً لا يُغتَفر، وليس من حق أي دولة أوحاكم أن يساوم هذا الكيان على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني مقابل منافع أوصفقات سياسية تجعل من القدس العربية المسلمة عاصمة للصهيونية، وتُلغي وجود شعب ووطن من الخارطة !
وحتى منظمة التحرير التي حملت لواء الكفاح المسلح ضد الاحتلال الصهيوني لعقدين ونيف من الزمن ( 1965-1993م )اتجهت مجبرة بقيادتها إلى القوة الناعمة ( اتفاقية اوسلو ) للدخول في المعادلة الدولية من أوسع الأبواب، وذلك بعد أن تمكنت من الانضمام إلى الهيئات والمؤسسات الدولية والأمم المتحدة ، لتجسيد الهوية الفلسطينية القانونية والسياسية على المستوى العالمي ، واستمرار الدبلوماسية الفلسطينية بالعمل على مواجهة الاحتلال ومحاربته، من خلال وضع كل القضايا أمام الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة الجنايات الدولية، ومن خلال أدوات تنفيذية محلية، وعربية، وإسلامية، وكنيسية، وجاليات، وأحزاب وبرلمانات دولية .
إن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية كل الشعوب العربية والإسلامية ، وكذلك هي قضية كل قوى العدل والحرية والسلام حول هذا العالم ، وبناءً على ذلك فإنه لا يملك أحد إدخالها في صفقاته مهما كانت أرباحه التي سيجنيها من ورائها .
هذا المقال كمشاركة في ورشة العمل التخصصية الثانية حول السياسة الخارجية الامريكية وقضايا الشرق الأوسط الراهنة مدرسة العلوم الاستراتيجية والدولية قســم الدراسات الإقليمية و الدولية شعبة الدراسات الأمريكية فصل الخريف 2018 / 2019م.