كان النمساويون أول من أدرك أن ( التنصت ) واستقبال الرسائل اللاسلكية هما من أنجح وسائل التجسس للاطلاع على الوضع السياسي والعسكري للعدو.. تلك المهمة الصعبة والشاقة التي كانت تسند سابقا إلى العملاء والجواسيس ومحاولاتهم الخطيرة والمكلفة.
وعندما نشأت الأزمة السياسية مع إيطاليا قام النمساويون بالتنصت واستقبال الاتصالات اللاسلكية الإيطالية ونجحوا في فك رموزها واستخدموا التجسس الالكتروني في صياغة سياستهم الخارجية، وفي عام 1911 وخلال الحرب التركية الإيطالية أعطى النمساويون مثالا أخر على قدرة أنظمتهم على التجسس، ولاهتمامهم بالسياسة الايطالية الخارجية والعسكرية فقد قام النمساويون باستقبـال جميع الرسائل اللاسلكية المرسلة بين روما وطرابلس (غرب ليبيا) وبذلك استطاعوا الحصـول على المعلومات عن تحرك القطع الإيطالية وسير المعارك ونتائجها اليومية، وكان ذلك وبدون شك أول مرة تستخدم فيها الوسائط التقنية (الراديو) بدلا من الوسائط التقليدية كالجواسيس والعملاء والكشافة والمراقبين الذين كان عليهم تتبع الحملات العسكرية أو السياسية ومرافقتها مئات الكيلومترات خطوة بخطوة.لحكومة الفرنسية هي مثال لبلد آخر غير النمسا استخدم الحرب الإلكترونية لأغراض التجسس، حيث في الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولي كانت المخابرات الفرنسية تقــوم بالتنصت واستقبال وتسجيل جميع اتصالات السفارات الأجنبية في باريس مع حكوماتها بالإضافة إلى جميع الرسائل الدبلوماسية القادمة من الخارج إلى هذه السفارات، ومن أبرز الأمثلة علــى التجسس الالكتروني الفرنسي هو استقبال رسالة لاسلكية طولة أرسلت من وزارة الخارجية الألمانية إلى السفير الألماني في باريس تحتوي على إعلان الحرب، ليقوم السفير بتقديمـه إلى الحكومة الفرنسية واستطاع الفرنسيون حل شفرة الرسالة ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتشويش الرسالة بحيث لم يستطع السفير الألماني فهم أي شي منها في البداية، بينما ربح الفرنسيون الوقت الثمين للقيام بتعبئة وتحضير قواتهم. خلال الحرب العالمية الأولى وصل التنصت أو استقبال الرسائل اللاسلكية للبعثات الدبلوماسية إلى مستوى عال جدا واستطاعت المخابرات البريطانية حل الشفرات الألمانية ذات السرية العالية، ولمدة ثلاث سنوات كان الإنجليز قادرين على استقبال وفك رموز جميع الرسائل التي كانت ترسلها وزارة الخارجية الألمانية إلى سفاراتها في الخارج، واهتم الانجليز بالإبقاء على هذا السر ولم يطلعوا عليه سوى حلفائهم الأمريكيين بينما كان الألمان غير شاعرين بهذا الشرخ الكبير في نظام اتصالاتهم.. ولذلك فإنه من وجهة نظر الخبراء تكون الحرب العالمية الأولى قد حدث بها عـــدة حوادث يمكن اعتبارها البدايات الحقيقية لفجر الحرب الالكترونية.
لقد وقعت حادثه هامـة بعد إعلان بريطانيا الحرب مباشرة على ألمانيا (عام 1914م ) وذلك عندما شاهد طراد بريطاني كان مبحرا في البحر المتوسط طرادين ألمانيين، حيث كانت مهمة الطراد البريطاني الإبلاغ لاسلكيا عن جميع تحركات السفن الألمانية إلى قيادة البحرية البريطانية في لـندن لتعطي بدورها الأوامر إلى أسطول المتوسط لاعتراض وتدمير الطرادين الألمانيين.
لكن لسوء الحظ لم يكن لدى الانجليز أي فكرة عن وجهة الطرادين اللذين يمكن أن يتجها إلى إيطاليا التي كانت محايدة في ذلك الوقت أو إلي ميناء تركي صديق، وتم التقاط الاتصالات اللاسلكية بين الطراد البريطاني وقيادة البحرية البريطانية من قبل الطرادين الألمانيين اللذين قررا في اللحظة المناسبة التخلص من المطاردة وذلك بالدخول على الاتصالات المعادية، حيث قاما بإرسال تشويش ضجيج على التردد المستخدم نفسه من قبل الانجليز وحاول البريطانيون تغيير ترددهم عدة مرات ولكن دون جدوى، وفجأة غيرت السفينتين الألمانية وجهتيهما وانطلقتا بكامل سرعتهما إلي المياه التركية الصديقة.
لقد اعتبر هذا التشويش على الاتصالات الإنجليزية أول عمل حقيقي للحرب الالكترونية حيث تم لأول مرة في التاريخ استخدام الأمواج الكهرومغناطيسية ليس الأغراض الاتصال فقط ولكن للتشويش على الاتصالات المعادية، وهكذا دخلت الحرب الالكترونية على الجبهات الداخلية ولو بشكل غير ظاهر، حيث شكل النمساويون والفرنسيون قبل عدة أعوام من نشوب الحرب العالمية الأولى وحدات خاصة للتنصت واستقبال الرسائل اللاسلكية العسكرية، بينما قامت ألمانيا بتشكيل مثل هذه الوحدات بعد بدايــة الحرب بعدة شهور إلا أنه من المستغرب جدا أن النمساويين قاموا بتزويد المخابرات الألمانية بكامل المعلومات التي تم الحصول عليها من وحدات التنصت واعتراض الاتصالات اللاسلكيـة العسكرية.
ولنكون عادلين فان هناك دولا كثيرة متقدمة تقنيا مثل ألمانيا قد تأخرت في إدراك أهمية التنصت واستطلاع الاتصالات اللاسلكية المعادية، لدرجة أنه كان في اعتقاد الروس في بدايـة الحرب أنه لا يمكن لأحد استقبال رسائلهم اللاسلكية حتى ولو كان يعمل ويسمع على التردد نفسه، ولكن عندما ساهم التنصت الألماني على الرسائل اللاسلكية الروسية مساهمة كبيرة في النصر الذي حققه الألمان على الروس عندها أدرك الروس مدى ضرورة وأهمية إرسال رسائلهم بشكل مشفر، ومع هذا تمكن النمساويون المهرة من فك الشفرة الروسية وتحليل جميع الرسائل، وتابع الألمان استقبال المعلومات يوميا عن تحركات الروس على الجبهة الشرقية.
ولتحسين استقبال الاتصالات المعادية فقد تم تزويد منظومات الاستقبال برادارات خاصة يستخدم فيها الصمام الالكتروني (صمام التكبير)، وللقبض واستقبال الاتصالات المعادية فان أول شيء يجب عمله هو اكتشاف التردد الذي يقوم العدو بالإرسال عليه والذي يتغير أثناء الحرب ويبقى ســرا، ولذلك صدرت تعليمات خاصة إلى عمال التنصت بالتحلي بالصبر الطويل وهم يقومـون بتوليف أجهزتهم لإيجاد التردد, وعند تحديد هذا التردد تقوم الشبكات المكلفة باستقباله وتسجيله إلى أن يغيره العدو.
لقد أفلح الفرنسيون كذلك في تنظيم نشاطاتهم في هذا المجال وكانوا قادرين على استقبال وفك شفرة الاتصالات اللاسلكية المرسلة من قبل الألمان الذين ارتكبوا أخطاء مشابهة لأخطاء الروس في الجبهة الشرقية في استخدام أجهزتهم اللاسلكية بعد ذلك الحين أصبح جميع القادة العسكريين وأركاناتهم يدركون أهمية التنصت على الاتصالات اللاسلكية المعادية، وأصبحت لديهم القـدرة على فهم وتقدير الايجابيات والفوائد التي يمكن الحصول عليها من التنصت واستطلاع الاتصالات المعادية، وبدئوا يطلبون الدعم في هذا المجال وهنا كانت ولادة التجسس الاليكتروني وازدادت فعالية هذا الموضوع بشكل كبير ولعب دورا أساسيا في الحروب الحديثة.
خلال الأعوام الأولى للحرب العالمية الأولى كانت الترددات المستخدمة في الاتصالات يمكن أن تحدد مواصفات وطبيعة الإرسال اللاسلكي المستخدم وخصوصا مسافات الاتصـال حيث كان معلوما أيضا انه كلما ارتفع التردد صغرت العناصر المكونة لأجهزة الاتصال وبعبارة أخرى فإن مواصفات وإبعاد الأجهزة المستخدمة تعتمد على التردد المستخدم وقد استخدم التردد العالـي في حالات عديدة للحصول على أجهزة لاسلكي صغيرة الحجم بغية تركيبها علي الطائرات .
لقد كانت الاتصالات السلكية معرضه أيضا للتنصت من قبل العدو، فعلى مستوى الجهات الصديقـة كان الهاتف يستخدم بشكل واسع ، واستنبطت فكرة طمر الخطوط الهاتفية داخل أخاديد أرضية لإخفائها .
وخلال حرب الخنادق اعتمدت القوات الشبكات الهاتفية باستخدام سلك واحد والخط الأخر عن طريق الأرض ( خط أرضي ) وحيث أن الخط الواحد يقع ضمن الأرض الصديقــة فقد كان القادة العسكريون على قناعة تامة بأن العدو لا يستطيع التنصت والاستماع إلى محادثهم إلا إذا دخـل علي الخط مباشرة، ولذتك لم يتخذوا أي احتياطات خلال ذلك ، وتبيين بعد ذلك أن هذه القناعـة غير صحيحة .
كان أول درس حول هذا الموضوع هو أن قوات المحلة البريطانية لفرنسـا اكتشف في وقف مبكر أن الألمان استطاعوا أن يكتشفوا خططهم ويحبطوها عن طريق استقبال نسخة من الأوامر المتعلقة بخطط الدفاع البريطانية ، وذلك لان الألمان كانوا قد قاموا ببناء جهاز يستطيع التقـاط اصغر التيارات المتولدة في الشبكات الهاتفية الأرضية للبريطانيين عن طريق استخدام شبكات من الأسلاك النحاسية والقطبان المعدنية تطمر تحت التراب ، وتوضع علي اقرب مسافة ممكنـه من الخطوط الهاتفية المعادية تقوم بالتقاط جميع التيارات المتولدة ، حيث كانت هذه التيارات المتسربة تلتقط وتكبر برادارات خاصة وبذلك استطاع الألمان وبشكل غير محدود الدخول على شبكات العدو الهاتفية والتقاط اتصالاته الهاتفية عبر الأرض، وحالما اكتشف البريطانيون هذا النظام قاموا بتصميم نظام حمايـة خاص أطلق عليه ضـد النبضة التلغرافية ANTI DOTE وهو عبارة عن جهاز يقوم بتحديد وحصر انتشار الصوت عبر الأرض ضمن نصف قطر محدود من مصدر الإشعاع.
إن هذا الاختراع الجديد لم يضع حدا لاستقبال العدو للاتصالات الهاتفية فحسب بل قاد أيضا إلي تطوير نظام جديد لاستقبال الاتصالات الهاتفية عبر الأرض حيث استخدام هذا النظام بشكل واسع في السنوات الثانية وأمكن من استقبال المكالمات الهاتفية من مسافة 4000 إلى 5000 متر وخلال العامين الأخيرين من الحرب كانت أنظمة الاستقبال الهاتفية قد أصبحت ذات فاعلية عالية أدركها معظم القادة العسكريين علي الجبهات بمساوي استخدام وحظر استخدامه ضمن اعتبارات محددة .
منذ بداية الحرب كان المهندسون الحربيون والفنيون يبذلون قصارى جهدهم من أجل بنـاء أجهزة متطورة ليس لتحسين وضع الاتصال بين وحداتهم ولكن أيضا لكشف وتحديد أماكن تمركز محطات الاتصال اللاسلكية المعادية، حتى أصبح ذلك ممكنا عندما تم تصميم نظام لتحديد الاتجاه مصدر الإشعاع الكهرومغناطيسي (غنيومتر) حتى أصبح مثاليا لكشف اتجاه محطــات الإرسال اللاسلكي العاملة على الأمواج الطويلة والمتوسط وتحديد موقعه وأصبح تحديد الاتجاهD F أداة ثمينة ودقيقة في عالم التجسس الالكتروني من أجل الحصول على المعلومات عن العدو .
لم يكن استخدم اللاسلكي في الجيوش في ذلك الحين واسع الانتشار وكان ذلك يقتصـر على مستوى الوحدات الكبير والقيادات ولذلك فقد كان تحديد موقع محطة لاسلكية معادية يشير دائما إلى وجود وحدات عسكرية ضخمة في تلك المنطقة بالإضافة إلى أن توزيع المحطات اللاسلكية على خطوط الجبهة كان يعطي فكرة واضحة عن تنظيم الجبهة المعادية، كما أن تغيير مواقــع المحطات اللاسلكية يعطي أيضا صورة واضحة عن تحركات الوحدات .
لقد أثبت جهاز تحديد الاتجاه نجاحاً كبيراً في معظم العمليات البحرية خلال الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد فقد سجل الانجليز نجاحا في تحديد تحركات الغواصات الألمانية التي كانت مجبـرة على الصعود إلى سطح الماء لإرسال المعلومات إلى قيادتها حيث كانت هذه الرسائل نمطيه مما سهل على العمال الانجليز فك شفراتها وتحديد الاتجاهات وأماكن هذه الغواصات بدقة.
وبعد حدوث التقدم والتطور التقني في مجال الراديو أمكن تصميم أجهزة تحديد اتجاه صغيرة الحجم يمكن استخدامها بشكل محمول بواسطة العملاء السريين، وعندما بدأ الألمان بقصـف مدينة لندن ليلا استغل الألمان هذه الميزة حيث أرسلوا عملائهم السريين إلى انجلترا وزودوهم بمرشدات لاسلكية محمولة PORTABLE ADI BEACONE وتم تمركزهم في منازل تقع خارج مدينة لندن وبذلك أصبح الألمان قادرين على توجيه مناطيدهم إلى أهدافها بدقة كافية حتى في حالات الضباب والليل، ولكن وجود إشارات كهرومغناطيسية غريبة في الجو تبدأ عملـها تماما قبل القصف أثار شكوك المخابرات البريطانية مما جعلها تستخدم راشداتها المحمولة علـى العربات (أجهزة تحديد الاتجاه) للبحث عن مصادر هذه الإشعاعات.
لقد ارتكب الألمان عدة أخطاء فنية باستخدامهم اللاسلكي على المناطيد مما أدى إلى كشف التردد والشفرة نفسها عند اتصالها بالمحطات الأرضية بالإضافة إلى الطيران بسرعات منخفضة مما سهل على البريطانيين معرفة أوقات الغارات على لندن كما استطاع البريطانيون بسهولة تحديد مواقع الأبنية المستخدمة من قبل العملاء الألمان الذين تم القبض عليهم وبدلاً من أن يقوم البريطانيون بفك هذه المحطات فقد قاموا باستخدامها في الليالي اللاحقة لتضليل الألمان وقيادة وتوجيه المناظير الألمانية إلى مناطق غير مأهولة بالسكان، حيث كانت المقاتلات البريطانية بانتظارها لتكون النتيجة تدمير المناطيد المغيرة ، لقد كانت هذه أنجح عملية نفذتها شبكات تحديد الاتجاه البريطانية.
ولمنع شبكات تحديد الاتجاه البريطانية هذه من كشف تاريخ مغادرة الأسطول الألماني للمواني قرر الألمان تضليل القيادة البريطانية باستخدام (الخداع الالكتروني) حيث قاموا قبل عدة أيام من الإقلاع بتغيير الرمز الكودي لسفينة القيادة برمز ميناء أخر والذي كان ميناء قاعدة الأسطول الألماني (ق2) وبهده الطريقة سيعتقد البريطانيون الذين كانوا يستقبلون إشارة سفينة القيادة بأن الأسطول الألماني لازال في قاعدته الأصلية (ق1).
ومع مرور الأيام لاحظ عمال المراقبة والتصنت البريطانيين ازدياد مفاجئا في عدد الرسائل اللاسلكية المرسلة من قبل سفن غير معروفة في الميناء ( ق2) والتي تطلب فيها تجهيــز كاسحات الألغام والتزود بالوقود بالإضافة إلى عدد من الأوامر، وقد دلت هذه الرسائل على أن الأسطول الألماني يقوم بالتحضر لعملية بحرية هامة، وأعطيت التعليمات لجميع المحطات على الساحل البريطاني بأن تكون على حذر وأن تراقب ما يحصل في الميناء ( ق2).
كانت البحرية البريطانية واثقة من معلومات أجهزة التنصت وتحديد الاتجاه والرسائل اللاسلكية العديدة التي استقبلت من السفن الألمانية المختلفة والتي أظهرت أنها غيرت مواقعها، واقتنعت قيادة البحرية بأن كامل الأسطول الألماني قد غادر قواعده وإنه يخطط لقصف أهداف بريطانية، لهذا أعطت قيادة البحرية البريطانية أوامرها الفورية إلى قائد الأسطول البريطاني بالإبحار بأقصى سرعة ممكنة لملاقاة الأسطول الألماني.
وبينما كان الأسطولان الألماني والبريطاني يبحران بالسرعة القصوى كل منهم باتجاه الأخر أرسل الألمان مناطيد لكشف المنطقة البحرية ولكن هذا الاستطلاع لم يحقق نتائجه المرجوة في حين استطاعت محطات إيجاد الاتجاه البريطانية الموجودة على الساحل الفرنسي التقاط إشارات المناطيد الألمانية مما أكد لهم أن الأسطول الألماني قد خرج إلى البحر.
اعتبرت هذه المعركـة من أهم المعارك فـي تاريـخ البحرية استخدمت فيها الحـرب الإلكترونية والتي كانت نتائجها معتمدة اعتمادا كليا على استخدام أجهزة التنصت الإلكتروني وأجهزة إيجاد الاتجاه البريطانية.