المكان: بنغازي، الزمان: 19 مارس، المشهد: كل الأنظار متجهة للاجتماع العالمي في مجلس الأمن لمناقشة أبعاد الوضع الليبي المتردي، والأزمة الراهنة في ظل زحف كتائب القذافي المدججة باتجاه الشرق،
وتحديداً بنغازي بعد أن خلفت وراءها القتلى والدمار في كل المدن التي قبلها لوأد الثورة التي اشتعلت هناك والتي امتد لهيبها في أرجاء الوطن ضد نظام لم يدخر من آلات القتل وعتاد الدمار إلا واستعمله بكل ضراوة مخلفاً وراءه الحرائق والأجساد المتناثرة في كل المدن والقرى متوعداً أهل بنغازي بقتلهم ولو اختبؤوا تحت الأحجار، ويصرح بكل غطرسة القوة بأن الأوان قد فات، وأن القرار عديم الفائدة (too late).
قلوب الليبيين منقبضة متجهة إلى المولى ليجنبهم هذه الويلات والزحوف المتوعدة على مقربة شديدة، وكادة المقاومة أن تنحسر، والدقائق تتباطأ، والعيون متسمرة أمام الشاشات، والجميع يتضرع لله وحده، والرتل يتسارع ويسارع الخطى متوعداً.
قاعدة جمال عبد الناصر كانت قلب المقاومة، فقد نفذت عديد الطلعات القتالية، وقاعدة بنينة هي غرفة عمليات الثورة والثوار الرئيسية، التقى فيها الجمعان من رجال القاعدتين فنيين وطيارين، فلم يستكينوا ألبتة، وشعروا بجسامة المهمة، فالوطن يناديهم، فكان الاجتماع وكان الترقب و التوثب، رئيس الأركان الشهيد عبد الفتاح يونس يجري اتصالات مكثفة مع المسؤولين استعجالاً للتدخل إنقاذاً لبنغازي.
وأمام ما ظهر من تلكؤ لا تتحمله الساعة الفاصلة التفت في غرفة العمليات إلى جمع الطيارين، وكان النداء الأخير (الوطن يناديكم فهلموا أيها العتاة، إنه يومكم، وسيسجل التاريخ بمداد من ذهب موقفكم وشجاعتكم والتي بعونه ستخلص الوطن من ويلات الدمار قبل أن يتدخل الناتو، فالوقت لن يسمح).
وكان الموعد: هرع الطيارون مدفوعين بحب الله والوطن لمعانقة السماء تلبية للنداء، وهدفهم الوحيد تلك الأرتال المدججة القاصدة بنغازي قتلاً وتدميراً.
قام طيارو الميج 21 متبوعين بطياري الميج 23 وطـلائع العمـودية بتنفيـذ عمليـات قتـالية غـاية فـي الفعالية والدقة غير آبهين لصواريخ الأرتال ودفاعاتهم المتينة، غايتهم تمزيق أوصاله والحد من تسارعه، فكان ما كان، وسجلت القوات الجوية في زمن قياسي ولحظة قياسية موقفاً بطولياً مشرفاً؛ إذ إنها تمكنت من إيقاف الرتل بعد تدميره، وانفجارات أحدثتها في مقدمته ومنتصفه؛ لتشتعل الحرائق وتتعالى ألسنة النار وسحائب الدخان، ويحل الارتباك ويدب الرعب في نفوس الكتائب، ما أجبرهم على التوقف ويضيع منهم زمام المبادرة، وبذلك تمكن مغاويرنا من تمزيق أوصاله بعد أن عمدوا التراب الغالي بدمائهم الطاهرة والزكية، وكانوا في الموعد ملبين نداء الوطن مضحين بأرواحهم فداءه، تاركين فلول الكتائب مبعثرة منهكة مرتعبة، تحاول الاختباء خوفاً، ما أجبرهم على تأخير هجومهم حتى الليل والانكفاء دفاعاً، وهذا هو الهدف الكبير الذي حققه أبطالنا حتى تتمكن القوات الدولية من الشروع في تنفيذ القرار، وإبقائهم ليكونوا لقمة سائغة أمام التحالف الدولي الذي حصدهم في أوكارهم.