أن أكثر من 2300 طلعة جوية تساوي 8300 ساعة طيران قام بها سلاح الجو الإيطالي في الثورة الليبية، أي ما يعادل 7% من العدد الإجمالي لساعات الطيران التي قامت بها قوات التحالف.
رجال وطائرات من 11 دولة استضافتهم سبع قواعد إيطالية خاصة قاعدة (تراباني) بصقلية التي منها انطلق 14% من طلعات قوات التحالف الجوية.لوحيدة المزودة بهذه القدرة الحيوية، وصولاً إلى الحرب السيكولوجية والطائرات الموجهة عن بعد.
هذا فضلا عن شبكة من أقمار المراقبة ذات القدرات الفريدة مع استخدام الذخائر متناهية الدقة، وهذا ما مكّن من تدمير 97% من الأهداف الواجب التعامل معها. وإضافة إلى ما سبق تنامى دور القوات الإيطالية تدريجياً بالتزامن مع سحب دول التحالف الأخرى لقواتها واستنفادها لاحتياطياتها. ومن كافة وجهات النظر تتجلى الأهمية الحاسمة للدور الذي اضطلعت به القوات الإيطالية في العمليات الجوية التي شهدها عام 2011، وفي تحرير ليبيا من الديكتاتور معمر القذافي سواء من ناحية نوع الإسهام أو من جانب حجمه.
وحتى رغم مرور عام على انتهاء العمليات ما يزال هذا الدور الحاسم مع الأسف مجهولاً.ولهذا التحفظ في إظهار أهمية الدور الإيطالي في الأحداث المأساوية التي تعاملت معها إيطاليا أسباب عديدة ومتكررة، وقد يكون من الشيق والمهم دراسة تلك الأسباب، وهي دائماً سياسية، وهذه الأسباب تكون أحياناً قابلة للفهم، بيد أنها في أحيان أخرى تأتي ثمرة لتقديرات خاطئة، وكما حدث إبان حرب الخليج (1991) وحرب البلقان (1999) وفي العراق وفي أفغانستان كانت نتيجة هذا صمتاً إعلامياً، وأحياناً مؤسسياً مع الأسف عن سلوك قواتنا المسلحة وأدائها، وللبرهنة على هذا نسوق هذا المثال: في حديث أمام الأمم المتحدة في 20 سبتمبر 2011 ذكر الرئيس أوباما أن الدانمارك من بين الدول المشاركة في الحرب ضد القذافي ناسياً ذكر إيطاليا مع أن وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا بعد شهر واحد من هذا ولأنه أكثر انتباهاً لجوهر الأمور وأكثر اهتماماً بها قال في مؤتمر صحفي:(إن الحقيقة أنه بدون إيطاليا، وبصراحة لا أدري إن كنا سنقدر على إنجاز المهمة في ليبيا)،
هذا في حين نجد هذا الجانب واضحا ومعروفا للمجتمع الدولي، خاصة للمتخصصين فيه الذين لم يفتهم إدراك الدور المحوري لإيطاليا والدقة المتناهية والفاعلية التي تتحلى بها قواتها في الوفاء بالتزامات التحالف.وهذا العرض المقتضب الذي كتبته يرمي إلى رأب هذا الفراغ جزئيا، ومعالجة الجهل المنتشر بوقائع الثورة الليبية المأساوية، هذا مع إدراك أن الحوادث في مجملها وتفصيلها بدءاً بالهجوم الفرنسي الأول ستوصف في وثيقة مفصلة ودقيقة في سردها للوقائع تقوم مؤسسة (راند) بتجميعها في الوقت الراهن بإسهام خبراء لهم باع طويل من الدول المشاركة في التحالف، وستصدر الوثيقة خلال الأشهر القليلة القادمة لتسلم للتاريخ ما أغفلت يوميات الإعلام تسجيله، وثمةسبب آخر يبرر هذه النافذة الأولى على المشاركة الإيطالية، إذ لاحظنا في تواصلنا مع الزملاء الليبيين- بمن فيهم رجال سلاح الطيران الليبي- أن دور سلاح الطيران الإيطالي لم يُدرك بشكل كامل، وفي أحيان أخرى أُدرك بشكل خاطئ على نحو لا يقدر نتائج هذه المشاركة من حيث الكم والكيف ويقلل من قيمتها، على الجانب السياسي الذي كان له في كل الأحوال تأثير محدود على العمليات، وبغض النظر عن الجوانب الاستعراضية التي اتسمت بها، خاصة في الفترة الأخيرة السابقة للأحداث العلاقة الشخصية بين الزعيمين بيرلوسكوني والقذافي فإن القرارات الإيطالية أملتها دائما المصلحة الوطنية التي ترى أن ليبيا مستقرة تنعم بالسلام في ظل ديمقراطية راسخة هي الخيار الأفضل للعلاقات بين البلدين وللمنطقة المتوسطية بأسرها، وحتى نبقى في جوهر الأشياء وليس في ظواهرها الخارجية فإن ثمة دورا حاسما في القرارات الإيطالية لعبته مشاعر الصداقة القائمة بين الشعبين التي تجلت في هذا أعمق وأكثر رسوخا من العلاقة بين حكام البلدين، وقد أُتيح لي أن ألمس عمق مشاعر الصداقة هذه في زياراتي لليبيا التي غدت دورية ومتكررة.
والآن دعونا ندخل إلى صلب العمليات: في الساعة 17،45 من 19 مارس أقلعت المقاتلة الفرنسية الأولى معطية إشارة بدء عملية فجر أوديسا التي انتقلت مسؤولياتها إلى حلف شمال الأطلسي في 31 مارس تحت اسم (الحامي الموحد)، و انتهت في 31 أكتوبر. ويقدم الجدول الأول هذا فكرة عامة عن نوع الإسهام الإيطالي (الجدول رقم 1)، وتوفير هذا القدر الكبير من التنوع في القدرات القتالية العالية رغم حجمها المحدود جاء نتيجة للدروس التي تعلمناها من مشاركتنا المنهجية في التحالفات الدولية، حيث أتاح لنا هذا تصميم أداة عسكرية مزودة بقدرات عادة ما تفتقر إليها القوات المشاركة في مسارح العمليات المختلفة، وتعلمنا من تلك الدروس أن جمع قدرات قوات جوية حتى لو كانت متقدمة لا ينتج عنه دائماً قوة جوية كاملة وجيدة التفصيل والتوزيع في القدرات المطلوب توفيرها، ومن ثم فإنه بدون مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية نعرض أنفسنا دائماً لخطر التوغل في مغامرة بلا نهاية رغم تمتعنا بأفضل التكنولوجيات المتاحة وأحدثها، وهذا تحديداً ما حدث في ليبيا، ورغم مشاركة أمريكية محدودة جدا فإنه لولا الدور الذي اضطلعت به القوات الأمريكية من وراء الكواليس ومساهمتها في جوانب معينة، لواجهت النتيجة النهائية إشكاليات عديدة، بل وكان من الممكن أن يؤدي هذا إلى إخفاق العمليات، وفي كل الأحوال قامت إيطاليا بأكثر مما يفرضه عليها واجبها، وكما يتضح من الرجوع إلى الجدول فإننا أدخلنا قدرات التموين بالوقود أثناء الطيران في حزمة القوات الجوية، وهو الأمر الذي طالما افتقرت إليه قوات التحالف الجوية، كما قمنا بالإسراع بتأهيل طائرات التموين في الجو من طراز KC-767A الجديدة التي سرعانما وفرت الدعم اللازم لطائرات التموين جواً من طراز KC-C130Jالأقدم والأقل قدرة، كذلك قامت مقاتلتنا التورنادو ECR من طراز (الاستطلاع القتالي الإلكتروني) بإنجاز عمليات تدمير قدرات الدفاع الجوي المعادية في الأيام القليلة الأولى من الحرب على نحو حقق التكامل المطلوب للقدرات الكبيرة التي تتمتع بها القوات الجوية الأمريكية في هذا المجال والتي كانت غير كافية في تلك الفترة.
وفي الجزء الثاني من الحرب خاضت العمليات الطائرات بدون طيار الحديثة والأكثر قدرة والتي كانت القوات الإيطالية قد تزودت بها لتوها، أي الطائرات دون طيار من طراز بريداتور Predator B، والتي أثبتت مساهمتها في عمليات المراقبة فائدتها الكبيرة، بل والحاسمة خاصة في منطقة بني وليد في المرحلة الأخيرة من العمليات، وفي هذا برهنت الخبرة التي اكتسبتها القوات الجوية الإيطالية بعد ثماني سنوات من العمل في العراق وأفغانستان على قيمتها الكبيرة، حيث جعلت من القوات الجوية الإيطالية مع سلاح الطيران الإسرائيلي والأمريكي بين القوات الجوية الأكثر خبرة وتمرسا على مستوى العالم في هذا المجال.
وبين القدرات التي وفرتها القوات الجوية الإيطالية للعمليات، والتي يجهلها كثيرون نجد العمليات الاستخباراتية بالأقمار الاصطناعية، خاصة حين نأخذ في الاعتبار الإسهام المحدود الذي قدمته الولايات المتحدة الأمريكية للعمليات، وقد جعل هذا المنظومة الإيطالية في هذا المجال الحيوي لا غنى عنها، وهي هنا كانتمنظومة الاستخبارات بالأقمار الاصطناعية كوزمو سكاي ميد Cosmo SKY Med، وهي إيطالية التصميم والتكنولوجيا بالكامل، وتتكون من كوكبة مشكلة من 4 رادارات بالأقمار الاصطناعية ذات الفتحات الصناعية وذات القدرات المتفوقة والتي كانت تعبر ليبيا أربع أو خمس مرات يومياً، كذلك قام الدفاع الجوي الإيطالي بواجبه عبر استخدام مقاتلات تيفون Typhoon EF 2000 ومقاتلات إف 16 الاعتراضية ومقاتلات AMX strikers وتورنيدو، وقد استخدمت هذه صواريخ stand-off، فضلاً عن مقاتلات AV-8B التابعة للقوات البحرية الإيطالية من على متن حاملة الطائرات (غاريبالدي)، ومن حيث الكم أنجزت إيطاليا نحو 7% من العدد الإجمالي للطلعات، أما من حيث النوع فقد بلغت الدقة في إصابة الهدف نسبة 97% ما يضعها على قدم المساواة في هذا مع المملكة المتحدة وسابقة لفرنسا في الترتيب بيد أن الوسائل المُمَكِنة فعليا للعمليات، أي تلك التي بدونها لم يكن تنفيذ العمليات ممكناً، فتتمثل في القواعد التي وضعتها الحكومة الإيطالية بلا أدنى تردد تحت تصرف قوات التحالف ومنذ المراحل الأولى من الصراع، فمن دون هذه القواعد لا شك أن دولا عديدة وقوات جوية عديدة ما كانت ستقدم علىالإسهام بهذا السخاء في مواجهة رحلات جوية طويلة ومجهدة للتمكنمن بلوغ مناطق العمليات خاصة اعتباراً للنقص المزمن في عدد طائرات الصهاريج اللازمة للتموين بالوقود أثناء الطيران.باختصار: لولا توفير هذه القواعد في خدمة العمليات لكانت هذه أكثر تعقدا وأكثر تكلفة وأطول مدة وغير مضمونة النتائج. ويلخص الجدول رقم 2 انتشار القوات الجوية لدول التحالف وتوزيعها في القواعد الإيطالية: كان ما يتراوح بين 200 -250 مقاتلة يشارك كل يوم في العمليات، وارتفع استهلاك الوقود اليومي بنسبة 2000% في سياق تحملت فيه قاعدة (تراباني) بصقلية وحدها 14% من إجمالي المهام. أخيراً: دعونا نلقي نظرة على تكاليف المشاركة التي يسهل تقدير بعضها، في حين يبقى بعضها الآخر شبه مجهول من قبل الرأي العام الإيطالي. وقد باغتت عملية (الحامي الموحد) دول التحالف وهي في خضم أزمة اقتصادية مع ما يترتب عنها من حاجة ماسة لاحتواء الإنفاق على القوات المسلحة وتخفيضه بشكل مؤثر، حتى في دول مثل المملكة المتحدة التي لثقافة الدفاع والأمن فيها جذور أكثر عمقاً وترسخا، وعلى نحو خاص في إيطاليا كان الوضع أكثر حرجا بسبب المديونية العامة الكبيرة التي تثقلكاهل البلاد بالتزامن مع ما تتعرض له من ضغوط ملحة من قبل الاتحاد الأوروبي لتبني إجراءات لاحتواءالإنفاق، ورغم هذا قامت إيطاليا بواجبها على أكمل وجه بل وأكثر من حدود واجبها، وتُقدر التكاليف الإجمالية للعمليات التي تحملتها نحو 150 مليون يورو وأكثر من هذا، فإن قرب إيطاليا جغرافياً من منطقة العمليات قد تسبب في إشكاليات إضافية ومتنوعة، فمن ناحية تَعَيَن تعديل مسار حركة الملاحة الجويةالعام، وحُولت حركة الطيران التجاري إلى مسارات لا تتداخل مع منطقة النزاع، وتُقدر التكاليف الإضافية الناجمة عن هذا التي تحملتها إيطاليا جراء عدم تحصيل ضرائب الطيران فوق أراضيها بعشرات ملايين اليورو، كذلك اضطُرت سلطات (تراباني) إلى إغلاق مطار المدينة المدني؛ إذ غدت الملاحة الجوية التجارية غير متوافقة مع حركة العمليات العسكرية، واضطُرت الحكومة لتعويض شركة إدارة المطار بمبلغ 10 مليون يوروكما بدأ نزاع مؤسف حول الاستخدام المدني لمرافق عسكرية، ستكون له بلا شك انعكاسات على المطارات الأخرى ذات الاستخدام المزدوج، أي العسكري والمدني، وفضلا عما سبق شهد عدد المهاجرين غير القانونيين الذين يهبطون على سواحل جنوب إيطاليا ازدياداً بشكل كبير، مع ما يصاحب هذا من خطر تسلل إرهابيين بينهم كإجراء انتقامي من قبل نظامالقذافي بعد أن غدا غير قادر على تحمل القصف من ناحية وثورة شعبه من ناحية أخرى.هذا باختصار السيناريو الذي وجدت إيطاليا نفسها فيه أثناء الثورة الليبية، وهو سيناريو يتفق ويتماشى مع خيارات إيطاليا الأساسية في مجالات السياسة الخارجية والأمن، وهي الخيارات التي أُعيد تأكيدها مرة أخرى وللمرة الألف في المجلس الأعلىللدفاع والتي بموجبها يتحتم الدفاع عن الأمن والحفاظ عليه حيثما تعرض للخطر، وأنا واثق أن إيطاليا ستتحلى بذات الكرم في مرحلة إعادة بناء ليبيا وقواتها المسلحة عن قناعة بأن التعاون مع بلد قريب وصديق يتمتع بديمقراطية راسخة يمثل استثماراً مضموناً للاستقرار والأمن في المنطقة بأسرها.