بدايةً وقبل الخوض في جوهر المقال، دعنا نتوقف قليلًا إزاء كلمة "مُستنفد"، بفتح الفاء، وهي من الناحية الصّرفية إسم مفعول مُشتقّ من الفعل السداسي (إستنفد)، حيث الفعل الثلاثي (نفد) أي فرغ وانتهى وهلك.. وعلى هذا الأساس فإن "مُستنفد"
يعني "مُستفرغ أو مُستهلك أو مُستنزف" إلى ذلك من الصيغ المشابهة.. وفي نفس المقام ترد أحيانًا كلمة "مُنضّب" بفتح الضاد وتشديدها، وتُستخدم أيضا لتوصيف اليورانيوم الذي سيتناوله هذا المقال بالحديث.
وتماشيًا مع ما تم ذكره فمن الواضح أنّنا سندرك أن اليورانيوم المُستنفد (Depleted Uranium)، والذي يرمز له (DU)، هو عبارة عن يورانيوم مُستفرغ جرى إستنزافه في المفاعلات فأصبح أشبه بفضلات وبقايا ناتجة عن أنشطة تخصيب اليورانيوم وعن أنشطة إنتاج الوقود النّووي، أو نواتج مترتّبة عن عمليات تصنيع النظائر المشعّة، أو عبارة عن مُخلّفات ثانوية ناشئة عن استخدام الطاقة الذرية في تشغيل البواخر والسفن والغوّاصات النووية.. ويتشكل اليورانيوم المُستنفد على هيئة مادة صلبة قابلة للتبخّر، وهو يحتوي على كميات منخفضة من نظيري اليورانيوم 234 و235 ويعتبر أقل نشاطا إشعاعيا من اليورانيوم الطبيعي بنسبة 60%.
الإستخدام العام.
يُستخدم هذا النوع من اليورانيوم بفعالية، كعنصر عالي الكفاءة، في عديد المجالات المدنية، ومن ذلك على وجه الخصوص في الأغراض المتعلّقة بالتدابير ذات الصلة بالوقاية من الإشعاع، وفي مقدّمتها عمليات حجب الإشعاع عند التعامل مع أنواع من المعدّات الطبية المُستخدمة في المشافي والمصحّات. وكذلك في أغراض دعم وتقوية الحواجز العازلة للمصادر المُشعّة. كما يدخل أيضًا، كمادة خام، في صناعة الأوعية الحافظة للوقود النووي. هذا بالإضافة إلى الإستعانة به في مجال الطيران كمادة مقاومة للضغط العالي.
الإستخدام العسكري.
بالنظر إلى الخواص الفيزيائية المُتميّزة التي يتّسم بها اليورانيوم المُستنفد، ولكونه مادة فائقة الصلابة فضلا عن الكثافة العالية التي تزيد عن (19.5 جرام/ سم3) وهذه الكثافة تفوق كثافة الحديد بثلاثة أضعاف وكثافة الرّصاص بضعفين، لذلك فإن هذه الخواص جعلت منه مركّبا مثاليًّا للإستخدام في صناعة الذخائر والصواريخ المضادة للمدرّعات علاوة على هذا فإن اليورانيوم المُستنفد يُعطي فعالية عالية في رفع مستوى تصفيح وتدريع الدبّابات والآليات القتالية المدرّعة، وذلك من خلال استخدامه على هيئة طبقات داعمة وساندة لألواح التّدريع.
إلى ذلك فقد ثبت أن الذخائر ذات العيارات المختلفة المُنتجة من اليورانيوم المُستنفد هي ذات تأثير عال ولها قدرة فائقة على اختراق الدّرع. وفضلًا عن درجة الصلابة والكثافة العالية التي يتّصف بها هذا الطراز من الذخائر، فإنّها مع كل ذلك تتميّز بخاصّية التوهّج والإشتعال وتوليد الحرارة العالية، وهو ما يزيدها قدرةً فريدة على الإختراق وتدمير مختلف أنواع المدرّعات وتحويلها إلى شظايا.
أمّا من الناحية الرّسمية فلا تُعتبر ذخائر اليورانيوم المستنفد أسلحة نووية أو كيميائية، وليس هناك حظر على استخدامها أو تصنيعها بأي شكل في الإتفاقيات الدولية.
حرب اليورانيوم المُستنفد
يعود تاريخ استخدام اليورانيوم المُستنفد ربّما لأول مرة إلى حرب الخليج التي اندلعت سنة 1991، فيما يُعرف بعملية عاصفة الصّحراء التي نفذتها قوات التحالف الدّولي ضد الجيش العراقي سواءً في الأراضي الكويتية أو في الداخل العراقي، وقد أُستخدم هذا اليورانيوم في صورة ذخائر وقذائف خاصّة (م/ د)، وفي الأثناء كانت الكثير من الآليات القتالية والمدرّعات الأمريكية "M1 Abrams" وحاملات الجنود "Bradly" المُستخدمة آنذاك مدعّمة بألواح اليورانيوم المُستنفد. وفي غضون العمليات أطلقت الدبابات الأمريكية والبريطانية آلاف القذائف المصنوعة من مخلّفات اليورانيوم.
وليس هذا فحسب فقد تكرّر المشهد مُجدّدًا باستخدام نفس الوسائل لكن بوتيرة أكبر خلال 2003، وذلك أثناء الغزو الأمريكي للعراق.. ومن الواضح أن هذا الإستخدام المكثف لذخائر اليورانيوم المُستنفذ يُفسّر سر الخسائر السّاحقة التي تعرّضت لها القوة المدرّعة العراقية خلال الحربين المتتاليتين حينما كانت دبابات الجيش العراقي تتفحّم كلّياً وتتحوّل إلى شظايا وكتل سوداء لدى إصابتها بشكل مباشر بهذه الذخائر، وبذلك يُمكن اعتبار منطقة الخليج هي أول مسرح عمليات تُستخدم فيه بشكل مكثف المُعدّات والذخائر المصنّعة من اليورانيوم المُستنفد.
وكان المسرح الثاني الذي شهد استخدام ذخائر اليورانيوم المستنفد هو البوسنة والهرسك، حينما تدخّل الناتو للإسهام في إنهاء الحرب التي استمرت ثلاث سنوات عبر إجبار الصرب على القبول بمبدأ المفاوضات. وكان هذا التدخّل قد اعتمد بالدرجة الأولى على القصف الجوّي لمواقع صربيّة علاوة على عمليات برّية محدودة.
كما شهدت حرب البلقان استخدامًا مكثّفًا لذخائر اليورانيوم المُستنفد من قبل قوات حلف الناتو عندما نفّذ هجماته ضد الإتحاد اليوغسلافي "سابقًا" في غضون النصف الأول من سنة 1999، وذلك عن طريق القصف الجوي على مواقع وأهداف مُختلفة داخل الإتّحاد المنهار في خلال ما يناهز 100 طلعة جوية.
هل ستشهد الحرب في أوكرانيا أسلحة وذخائر اليورانيوم؟
هناك دلائل تشير إلى ذلك، وهو ما جعل روسيا تُصدر تحذيرا قويا ضد إمداد الجيش الأوكراني بأسلحة اليورانيوم المُستنفد، وسط مخاوف من أن مجموعة واسعة من الدبابات والعربات المدرعة الغربية المقرر تسليمها إلى الجيش الأوكراني مصمّمة خصيصا لإستخدام مثل هذه الذخائر. وتضمّن التحذير الروسي معلومات مفادها أن دبابات ليوبارد 2، بالإضافة إلى مركبات القتال المدرعة برادلي ومارودر، يمكنها استخدام قذائف اليورانيوم المُستنفد، والتي يمكن أن تلوث البيئة المحيطة، تمامًا كما حدث في العراق وفي يوغوسلافيا. وبحسب تصريحات القيادة الروسية؛ فإنه إذا تم تزويد كييف بمثل هذه الذخائر لاستخدامها ضمن المعدات العسكرية الثقيلة الغربية، فستعتبرها الجانب الروسي استخدامًا "للقنابل النووية القذرة" ضد بلاده، مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب.
لماذا اليورانيوم المُستنفد؟
ثابرت الولايات المُتّحدة وربّما دول نووية أخرى على إعادة تدوير اليورانيوم المُستنفد واستخدامه كمادة أساسية في مجالات التصنيع الحربي، نظرا لتزايد كمياته ووجود فائض لديها منه، وسط تحديات وأعباء تخزينه. وأيضا بسبب المعضلات الي تعتري عمليات مناولته أو التخلص منه، كونه مادة مُتهالكة ذات نشاط إشعاعي ينبغي التعامل معها بما لا يتعارض مع موجبات السلامة العامة والإشتراطات البيئية. وعلى هذا الأساس انبثقت في أذهان الخبراء الأمريكان فكرة تصريف فائض المخزونات من هذه المادة خارج أراضي الولايات المُتحدة بأقل التكاليف، وذلك من خلال إدخاله في الصناعة العسكرية واستخدامه في حروب خارجية. ولا سيما أن إنتاج ذخائر اليورانيوم المُستنفد يُعد،ّ من حيث التكاليف، البديل المثالي الأقلّ تكلفةً بالمقارنة مع الذخائر التقليدية المصنّعة بالمعادن العادية، هذا ناهيك عن الفارق الكبير في القدرة التدميرية والكثافة الحرارية التي تنفرد بها الذخائر المصنّعة من مادة اليورانيوم المُستنفد.
تداعيات استخدام اليورانيوم المُستنفد.
بطبيعة الحال لا تخلو بقايا اليورانيوم المُستنفذ من انعكاسات ومخاطر على البيئة وعلى السلامة العامة للسكان، لاحتوائه على سُمّية إشعاعية وكيميائية، فعند احتراق هذا المعدن جرّاء اصطدام قذائفه النارية وارتطامها بالأهداف الصّلبة تتناثر الشظايا وتتشكل جزئياته في صورة غبار وعلى هيئة دقائق. وتنتشر هذه الجزئيات بفعل الريح لتتناثر في الجو وعلى مساحة من الأرض، وقد تصل إلى مصادر المياه والمزروعات مما يؤدّي إلى تلويثها. أما الأضرار التي تطال الإنسان تستهدف على وجه الخصوص الرئتين والكليتين مع تأثيرات تراكمية ذات خطورة. وتتفاوت درجات هذه الأضرار وفقا للجرعة المُكتسبة ومُستوى التعرض ومدّته. وتصل الجزيئات الملوثة إلى جسم الإنسان عبر الجهاز التنفّسي بواسطة الإستنشاق أو عن طريق مسام الجلد، وأيضا عن طريق الجهاز الهضمي من خلال تناول الأغذية والمياه المُلوّثة، أمّا التعرّض لجرعات خفيفة فلا يشكّل ضررًا يُذكر.