القدس مدينة موغلة في القدم، يعود تاريخها إلى خمسة آلاف سنة على وجه التقريب، ما جعلها مصنفة كواحدة من بين أقدم المدن في العالم، سكانها الأصليون هم عرب كنعانيون. وتعد مهد الديانات السماوية، ففي سنة 621 ميلادية شهدت القدس معجزة الإسراء والمعراج، حينما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم
ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى فتحت هذه المدينة في السنة الخامسة عشرة للهجرة الموافق 636 للميلاد، وذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وقد بدأت في ذلك الحين تأخذ طابعا إسلاميا مشهودا، ترافق مع ازدهار علمي وثقافي متميز. ومن أبرز الآثار الإسلامية التي شهدتها المدينة مسجد قبة الصخرة الذي تم إنشاؤه سنة 691 ميلادية والمسجد الأقصى الذي أعيد بناؤه سنة 706 ميلادية.
- بعد خمسة قرون من الحكم تحت راية الإسلام، ونتيجة للأوضاع التي اتسم بها العالم الإسلامي خلال القرن الحادي عشر من تفكك وضعف بسبب إشاعة الفتن والصراع على السلطان، تمكن الأوروبيون من غزو ديار الإسلام ضمن حملات متتابعة عرفت بالحروب الصليبية، وسقطت القدس في أيدي الصليبيين عام 1099م وكان جنود الإحتلال حينما دخلوا بيت المقدس قد ارتكبوا مجزرة رهيبة قتلوا خلالها سبعين ألفا من أهل المدينة، وعمدوا خلال فترة الإحتلال إلى إلحاق الكثير من التدنيس وأعمال الطمس والتشويه بالمسجد الأقصى وسائر المقدسات الإسلامية.. وأقيمت حينئذ في القدس مملكة لاتينية كاثوليكية دأبت على فرض شعائرها على الأرثوذكس..
- في عام 1187 م قاد صلاح الدين الأيوبي جيشا بعد معركة حطين ونجح في دحر الصليبيين واسترداد القدس من أيديهم.. واللافت أنه عندما دخل المدينة مع أتباعه لم يعامل المستوطنين إلا وفق ما تمليه عليه مبادئ العقيدة الإسلامية الحقيقية من رفق وحسن معاملة، إذ لم يلجأ إلى استخدام أي شكل من أشكال الإنتقام ضدهم أو المساس بدور عبادتهم، بل خيرهم بين العودة إلى بلدانهم الأصلية أو العيش بسلام في ظل عفو الإسلام وسماحته. وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها.
- بحلول سنة 1616 م بسطت جيوش الدولة العثمانية سيطرتها على فلسطين وحينئذ أصبحت مدينة القدس خاضعة لولاية الإمبراطورية العثمانية. وفي تلك الأثناء أعيد بناء أسوار المدينة وقبة الصخرة. وظلت المدينة تحت الحكم العثماني حتى الحرب العالمية الأولى التي انكسر فيها الأتراك العثمانيون ورحلوا عن فلسطين.
- خلال شهر ديسمبر 1917، وقعت القدس في يد الجيش البريطاني وأعطت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وحينها أصبحت القدس، عاصمة فلسطين، تحت الانتداب البريطاني وظلت كذلك طيلة السنوات المنحصرة بين 1920 و1948. ومنذ ذلك الحين دخلت المدينة في عهد غير مسبوق كان من أبرز تداعياته ارتفاع عدد المهاجرين اليهود إليها بشكل متزايد لا سيما عقب صدور وعد بلفور المشؤوم عام 1917، والذي تعهدت بموجبه الحكومة البريطانية بإقامة دولة لليهود في فلسطين.
- بعد مرور سنتين على انتهاء الحرب العالمية الأولى، وتحديدا في 29 نوفمبر 1947، أصدرت الأمم قرارا بتدويل القدس، تلاه إعلان بريطانيا إنهاء فترة انتدابها على فلسطين، وهي في ذات الوقت ملتزمة أيما التزام بوعد بلفور، وحينما قامت بسحب قواتها من هناك، كان المجال قد فسح أمام العصابات الصهيونية الإرهابية لتنفيذ المؤامرة الدنيئة، فجاء إعلان قيام دولة الكيان الإسرائيلي، وعاصمتها القدس الغربية، وذلك عقب حرب شنتها تلك العصابات في سنة 1948 وأسفرت على الإستيلاء على أجزاء من أراضي فلسطين وتشريد الآلاف من المواطنين من ديارهم.
- خلال حرب 1967 كان العدوان الإسرائيلي على الدول العربية قد أسفر على هزيمة أفضت إلى احتلال شبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، بالإضافة إلى الضفة الغربية لنهر الأردن بما فيها القدس الشرقية بعد أن كانت خاضعة للسيادة الأردنية.
- في غضون حرب أكتوبر 1973، تحقق للجانب العربي بعض النتائج الإيجابية النسبية التي كان من أبرزها نجاح الجيش المصري في تدمير خط برليف الدفاعي الإسرائيلي.. وقد تمخضت هذه الحرب عن تبعات أدت إلى استعادة مصر لشبه جزيرة سيناء، لكنها استعادة تفتقر إلى الكثير من أوجه السيادة الوطنية، بينما ظل الحال على ما هو عليه بالنسبة لبقية الأراضي العربية المحتلة.
إتسمت الفترة التي انقضت منذ اغتصاب فلسطين بالممارسات العدائية والعنف المفرط وشن الحروب الخاطفة كوسيلة معتمدة من الكيان الإسرائيلي بهدف التوسع واغتصاب الأرض وتشريد المواطنين والسعي لإحباط المقاومة الوطنية، إذ لا تكاد تمضي فترة من الزمن من دون أن يقترف الجيش الصهيوني في حق الفلسطينيين مجزرة رهيبة يندى لها جبين الإنسانية من فظاعتها وشدة دمويتها، ناهيك عن جرائم الإعتداء المتواصل عن المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس وباقي المناطق الفلسطينية. ذلك هو دأب دولة الإحتلال عبر كل مراحلها، ظلت تمارس الأعمال العدائية والإرهاب المنظم كأسلوب منهجي، شكل أبرز الركائز الأساسية للسياسة الإسرائيلية على مدى سبعة عقود من الزمن..
إلى ذلك فإنه لم يكن لهذا الكيان أن يتمادى في اقتراف جرائمه المعهودة، ولم يكن له أن يمعن في انتهاك الشرعية الدولية وعدم الإمتثال للقانون الدولي لو لا احتمائه بحلفائه وبمن يحيطون جرائمه بوافر من أساليب التغاضي وصرف النظر، بل لم يكن له شيء من كل ذلك لو لا الدعم والمساندة المادية والمعنوية التي يتلقّاها من حليفته الأمريكية.
والآن بعد مرور مائة سنة على وعد بلفور، لم يساور رئيسة وزراء بريطانيا في هذه الذكرى حتى أدنى مشاعر الأسف أو الحزن في ما جره هذا الوعد المشؤوم من فواجع ومصائب وأوضاع مأساوية حلّت بالشعب التي اغتصبت أرضه، بل إنها لم تتورع في التعبير عن فخر مملكتها بالدور الذي لعبته في تأسيس دولة إسرائيل، وكأنها بذلك تبارك الإحتلال وتمجد المذابح المتكررة التي ظلت تقترفها عصابات الجيش الصهيوني في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، متجاهلة ما تسبب فيه هذا الكيان من كوارث وعدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط وما أدى إليه من تصدّع في السلم والأمن على المستوى الإقليمي والدولي. وفي سياق متصل لم يكن من المستغرب أن يخرج الرئيس الأمريكي ترمب على الملأ بقرار يعترف بمقتضاه بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي وهو يستعد لنقل سفارة دولته من تل أبيب إلى تلك المدينة، متجاهلا الوضع القانوني للقدس الشرقية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ومنتهكا في الأثناء كافة القرارت الصادرة عن الأمم المتحدة والمتعلقة بمدينة القدس، بما في ذلك قرارت مجلس الأمن وما تنص عليه مبادئ القانون الدولي من عدم جواز انتقال بعثات دبلوماسية إليها أو الإعتراف بها عاصمة لدولة الإحتلال.. ومن جهة أخرى فإن هذا الرئيس لم يتورع عن خرق ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص صراحة ضمن نصوصه على عدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة. تصرف غير مسؤول لم يأخذ في اعتباره التداعيات التي لا تحمد عقباها والتي من الممكن أن تجعل الأوضاع في المنطقة على حافة الهاوية بسبب ما قد يترتب من وراء هذا التطور الخطير من توتر وزيادة في تأجيج الموقف القائم.
تتزامن هذه الأوضاع مع تراجع الدور العربي وتأتي في ظل الحالة الراهنة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي من التردّي والإنقسام وتفشي الفتنة، فيما تظل المنظومة الدولية عاجزة عن حل القضية الفلسطينية، بسبب اصطدام كافة الإجراءات الدولية في هذا المضمار بضغوط وتأثيرت بعض الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي ترتبط بمصالح استراتيجية مع الكيان الصهيوني، وبالتالي فهي تنحاز له بشكل سافر، وتكتنفه بولائها المطلق، دون أن تولي أدنى اعتبار للشرعية الدولية في الجزئية المتعلّقة بالقضية الآنفة الذكر.
وبعد هذا كله ألم يحن الوقت بعد لانقشاع ضبابة التأثير أمام المجتمع الدولي، حتى يتسنى له تمييز الحق من الباطل وبالتالي النظر بعين العدل والإنصاف إلى قضية فلسطين على نحو يتم معه الإعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وفقا للثوابت الوطنية المتعارف عليها. ولعله من نافلة القول في مقامنا هذا الإضافة أن مآل النظم الإستيطانية والإيديولوجيات العنصرية لا محالة إلى الإضمحلال والتلاشي، وقد أثبت التاريخ ذلك بالقدر المتيقن وفي مناسبات عديدة