تاريخ الجهاد الليبي جزءاً من تاريخنا الحربي والتذكبر بملاحم الجهاد الليبي واجب وطني نحيي من خلاله ذكرى قيم ومباديء وتاريخ نضال مشرف لشعب قاوم بالسلاح والارادة والعزيمة عدو محتل غاشم ليؤكد بأن الوطن عزيز وأن الأمم تحيا بنضالها في كل مراحل حياتها
تطل علينا الذكرى العاشرة بعد المائة لمعركة سيدي عبد الجليل "معركة جنزور" والتي تعتبر من أكبر معارك الجهاد الليبي ضد الإستعمار الإيطالي جرت أحداثها في المراحل الأولى من فترة الإحتلال البغيضة , يذكرها الإيطاليون في مراجعهم التاريخية بإسم معركة (La battaglia di Zanzur) وحرت أحداثها في جنزور في اليوم الثامن من يونيو عام 1912م بين الإيطاليون والمجاهدين الليبيبن وتعد علامة فاصلة في تاريخ المقاومة ضد الإستعمار الإيطالي.
الموقع وأهميته :
مرتفع (سيدي عبدالجليل) يشرف على بلدة جنزور ويتحكم استراتيجياً في امكانية السيطرة عليها والاحتفاظ بها وهو موقع مهم على الطريق الواصل بين بلدات ومناطق الشريط الساحلي الليبي والسيطرة عليه تعني فتح الطريق نحو احتلال باقي بلدات ومناطق الساحل باتجاه الغرب حيث زوارة التي يريد الطليان احتلالها والسيطرة عليها.لأن السيطرة عليها التمكن من كل الساحل الليبي.
أحداث المعركة :
الموقف العام :
واجهت القوات الإيطالية بعد نزولها بمدينة طرابلس واصطدامها بالمقاومة الوطنية سلسلة معارك جرت بضواحيها وهي (الهاني - سيدي المصري - أبي مليانة - شارع الشط - عين زارة) ونتيجة لذلك ظلت ترابط داخل دائرة ضيقة ولم تستطع أن تحقق مخططاتها في التوسع السريع الذي كان من المخططات الرئيسية للعمل الحربي، ولم تكن القوات الإيطالية قد وضعت في تقديرها بأنها ستواجه مقاومة عنيفة شعر معها العدو بإستحالة تنفيد مشروعاته التوسعية بالسرعة التي كان يتوقعها عند بداية الحملة وقد اضطرته هذه المقاومة إلى أن يعطل كثيراً من العمليات التي كان ينوي القيام بها على السواحل الليبية مثل احتلال زوارة وغيرها من الأماكن.
احتاجت القوات الإيطالية لنحو تسعة أشهر منذ نزولها الاول على الساحل الليبي لمحاولة التقدم والخروج من ذلك النطاق الضيق لتعزيز سيطرتها على الشريط الساحلي ومضت تستعد طيلة تلك الفترة لعمليات حربية تهدف من خلالها إلى توسيع دائرة الأرض المحتلة، والسيطرة مبدئياً على الشريط الساحلي الغربي، من زوارة إلى طرابلس ولتأكيد وحودها وسيطرتها كان لابد للقوات الأيطالية أن تقوم بعملية كبيرة لثبث أنها قادرة على مواصلة تقدمها وبسط كامل سيطرتها على الساحل الليبي .
شرعت القوات الايطالية في تنفيد خطة السيطرة على الساحل بإحتلال فروة وأبو كماش، في محاولة للزحف على زوارة، ومنها إلى بقية المناطق الغربية المجاورة وفي نطاق هذه الخطة أعدت قوة كبيرة للهجوم على جنزور، بحيث يتم الزحف على القوة المرابطة في المنطقة الغربية من الجهتين بحيث تواجه حرباً على جبهتين يكون من شأنها أن تستنزف قواها وتشتت مجهودها وتمكن القوات الإيطالية منها في سهولة ويسر.
الموقف الخاص :
كان لابد من ضرب تجمعات الفوى الوطنية التي بدأت تتجمع بالقرب من جنزور ولذلك أخذت القوات الإيطالية تعد للحملة على جنزور منذ بداية يونيو 1912م وكانت ترى أن الوقت قد حان لضرب القوى الوطنية المتجمعة في المنطقة والتي كان يشكل وجودها وإنتشارها حول المدينة خطراً متزايداً على المواقع الإيطالية خاصة بعد تردد نبأ الإصرار على إستردادها من الإيطاليين، وكانت القوات الإيطالية تري إن هذه المحلات تطوق المدينة ولا تسمح لهم بحرية الحركة , وطبقاً لتقارير المخابرات الإيطالية نرابط محلات المجاهدين على النحو التالي:
تشكيل قوات المجاهدين :
جنزور (2500 إلى 3000 مقاتل).
سواني بن آدم (من 4000 إلى 5000 مقاتل(.
فندق بن غشير وبئر طبراز (من 4000 إلى 5000 مقاتل).
الجفارة (وادي الرملة) (600 مقاتل).
كانت خطة المجاهدون في عملياتهم تعتمد على تنفيذ هجمات تسمح بدفع مفارز قليلة في المواجهة والعمل ببقية القوات ضد مؤخرة واجنحة العدو.
ولتأكيد دفاعات المجاهدين كانت الخنادق التي إقيمت في جنزور للمواجهة الأمامية، محصنة تحصيناً تاماً، وتقول التقارير الرسمية الإيطالية (إن هجوماً أمامياً، ضد هذه الخنادق القوية من شأنه أن يكلف - بوضوح - خسائر فادحة جداً).
أما القوات المرابطة في سواني بني أدم، فقد أسندت إليها مهمة التدخل ، لضرب الجناح الأيسر الإيطالي ، كما تتولى ضرب ومشاغلة المؤخرة، بقية القوات المرابطة في فندق بن غشير، وسواني أبي غمجة.
استعدت القوات الإيطالية بدورها لمواجهة هذه الإحتمالات وكانت تخشى إحتمالات الهجوم على مدينة طرابلس، أثناء إنشغال القوة الإيطالية بالعمل الحربي في جبهة جنزور فوضعت قوات إحتياطية في قرقارش لدعم المؤخرة ومواجهة تدخل المجاهدين المرابطين في سواني بني أدم وقوة أخرى في أبي مليانة ، لمواجهة القوة المرابطة في فندق بن غشير وبئر طبراز لمساندة القوة الأولى عند اللزوم.
وكان الهدف الرئيسي للهجوم الإيطالي الإستيلاء على المواقع التي كانت بيد المجاهدين وإحتلال مرتفع (سيدي عبدالجليل) الذي يسيطر على بلدة جنزور .
تقرر أن يتم الهجوم بفرقتين كبيرتين واحدة تسير بمحاذاة الشاطيء وتساندها السفن والمدفعية البحرية وتنحصر مهمتها في إحتلال مرتفع سيدي عبدالجليل أما الثانية فتتوغل أكثر إلى الداخل، وفي خط مواز للأولى، مع شيء من التأخر لحماية الجناح الأيسر.
مراحل المعركة :
المرحلة الأولى :
بدأت المعركة يوم 7 يونيو بتحريك القوات وإعدادها، وتهيئة الخدمات اللوجستية الضرورية، وحشد كافة الإمكانيات في منطقة قرقارش، ولذلك أقامت القوات الإيطالية بربط خط حديدي بينها وبين مدينة طرابلس، لنقل الجرحى، كما أعد اسطول من المراكب لنقل المؤن إلى مرسى جنزور حال سقوطها في أيدي الإيطاليين واسندت مهمة الهجوم المباشر إلى الفرقة الأولى بقيادة الجنرال (كاميرانا) ووضعت تحت تصرفه بالإضافة إلى القوات الإحتياطية، السفن الحربية التاليـة ( مدينة سيراكوزة ) ( كارل البرت ) ( أرديا ) التي كان عليها أن تدعم بمدفعيتها زحف هذه القوات نحو سيدي عبد الجليل.
وفي الساعة الرابعة من يوم 8 يونيو 1912 بدأت القوات الإيطالية في التقدم فعلياً نحو سيدي عبد الجليل وفي الساعة 4.40 فتح المجاهدون النار على القوة الزاحفة وبدأت المعركة التي استمرت عنيفة حامية الوطيس، تتخللها فترات من الإنقطاع البسيط وتركزت المرحلة الأولى من المعركة حول منطقة (سيدي عبدالجليل) وأبدى المجاهدون مقاومة شديدة في سبيل الإحتفاظ بها، وعدم سقوطها في أيدي الأعداء، إلا أن تدخل السفن الحربية، وقصفها العنيف لمواقع المجاهدين وتغطيتها لزحف القوة المعادية، مكنها في النهاية من السيطرة على هذا الموقع، واحتلال مرتفع سيدي عبدالجليل، ومع ذلك أستمر الدفاع قوياً وعنيفاً في المواقع الأخرى غربي وجنوبي الموقع المحتل، وتمكن المجاهدون من عزل بعض الوحدات الإيطالية وايقاع خسائر كبيرة بها.
المرحلة الثانية :
تحركت قوات المجاهدين عند الساعة الخامسة والنصف من فندق التوغار نحو أرض المعركة وجرت قرب منطقة قرقارش مواجهات قوية ضد قوات إحتياط للعدو ويقول الجنرال (فروجوني) في تقريره عن هذه المعركة:
"يبدو أن كل القوات المرابطة في سواني بني أدم قد شاركت في هذا الهجوم أي حوالي خمسة الأف رجل وأن العنف الذي أندفعوا به إلى الهجوم والضراوة التي اشتدوا بها في العمل الحربي رغم حصد نيران البنادق والرشاشات لهم واكثر من ذلك نيران العشرين مدفعاً من مختلف الأحجام والذخيرة التي استنفذت في ذلك اليوم، تظهر كلها الأمل الذي كان يعقده العدو في التمكن من هد جبهتنا في تلك البقعة".
المرحلة الثالثة :
إضطرت القوة الإيطالية إلى تحريك قواتها في أبي مليانة لمهاجمة الجناح الأيمن، من القوة السابقة للمجاهدين، المشتبكة مع الإيطاليين في قرقارش، وبذلك استطاعت أن تخفف شيئا من الضغط على قواتها وتساعدها في الإنسحاب إلى مواقعها، وقد اندفع المجاهدون إلى ملاحقتها، حتى مواقع رمي المدفعية الإيطالية ولم تسلم ميسرة القوة الإيطالية، المحركة من أبي مليانة، من التعرض للهجوم المستمر إلا أن ضعف القوة الموجودة في هذه المنطقة، حال دون النجاح في عمليات الإلتفاف والتطويق.
نتائج المعركة :
نتيجة للفارق الكبير في العتاد والتجهيزات العسكرية بين قوة المجاهدين والعدو الإيطالي تمكنت قوات العدو من السيطرة على موقع سيدي عبد الجليل بعد مقاومة عنيفة ابداها المجاهدون.
كان الدفع بوحدات المدفعية سبباً في فشل عملية التطويق التي حاول المجاهدين القيام بها مع الإستخدام المكثف لمدفية الميدان والبوارج الحربية التي ساندت الهجوم بقوة وفعالية.
انسحاب قوات المجاهدين نحو العمق لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الجهاد الليبي ضد العدو الذي بدأ يستعد لتوسيع تواجده في مناطق الساحل ومناطق العمق.
الدروس المستفادة :
1- معركة سيدي عبد الجليل تعتبر من المعارك التي جرت في السنة الثانية لإحتلال ليبيا ومن خلال متابعة أحداثها يتبين عدم رضوخ المجاهدين لقوات الإحتلال الإيطالي ومقاومتهم العنيفة لها ما دل على إصرارهم على المقاومة وبذل أرواحهم في سبيل الله والوطن.
2- برغم الإمكانات المادية والقتالية المتواضعة للمجاهدين إلا أنهم طبقوا أساليب قتالية غاية في البراعة من حيث القتال بمجموعات صغيرة وتركيز الضرب على مؤخرة وأجناب القوات المهاجمة التي تكون في العادة مثقلة وحركتها بطيئة ومهمة في الوقت ذاته لتقدم وإدامة قوات العدو.
3-عزز المجاهدين موقعهم الدفاعي بشكل ممتاز ويظهر ذلك في ما ذكرته التقارير الايطالية بإستحالة التقدم والسيطرة على الموقع الدفاعي المحضن جيداً وهذا يظهر مدى الصلابة في المقاومة التي أبداها المجتهدين وكذلك مدى التنظيم والتنسيق في إدارة المعركة .
4- طبق المجاهدين مبدأ الإنسحاب ضمن التنوع في العمليات القتالية التي طبقوها في هذه المعركة مع ادراكهم بأن ذلك لا يعني تراجعهم عن مبادئهم بل إنه يعني إستمرار المقاومة في مواقع جديدة وبأن الحرب صولات وجولات وإن هزمهم العدو ماديا فلم يكن ناجحاً في هزمهم معنوياً.