حقيقة العدو الصهيوني أنه كيان مغتصب لأرض فلسطين، ويعمل بشكل موصول وممنهج على إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره وتصفية مناضليه في محاولة لإجهاض المقاومة الوطنية، وهو لا يتوقف عن جرف ومصادرة الأراضي وهدم المنازل وبناء المستوطنات، ولا يتورّع أبدا عن استباحة الحرمات وانتهاك المقدسات الدينية..
ذلك هو دأب الحركة الصهيونية التي عمدت، منذ نشأتها إلى حين قيام الدولة اللقيطة "إسرائيل" وعبر كل مراحلها، على اعتماد أسلوب الإرهاب واستعمال العنف المفرط كأسلوب لاغتصاب الأرض والتوسّع على حساب الدول العربية واجتثاث الفلسطينيين من ديارهم وثنيهم عن المطالبة بحق العودة. وتعد هذه الأساليب نقاط الإرتكاز في استراتيجية الصهاينة في احتلال الأرض والتوسع باستخدام الحرب الخاطفة. ولم يتغيّر هذا الأسلوب بل استمر الحال على هذه الشاكلة إلى الحد الذي بات معه الإرهاب والعنف المفرط منهجا رسميا يعتمده الإسرائيليون في عملياتهم العسكرية الموجهة لإحباط المقاومة ومحاولة إبطال مفعولها. ومنذ ذلك الحين لا تكاد تمر فترة من الزمن من دون أن يستيقظ العالم على مجزرة جديدة ترتكبها عصابات الجيش الإرهابية التابعة لهذا الكيان ضد أبناء الشعب الفلسطيني، في عمليات أشبه ما تكون بحرب إبادة جماعية الغرض منها إفناء جموع من هذا الشعب الأعزل في أتون حرب تستهدف البشر والشجر والحجر. وما من أحد إلا ويعلم طبيعة المجازر الصهيونية التي تتسم بالترويع والإفراط في القتل والتنكيل.. لا غرابة في ذلك فالعقيدة الصهيونية هي دوما متعطشة للدماء وإزهاق الأرواح البرئية، وسجل الأحداث يسطّر الكثير من مشاهد التقتيل ومن الدلائل التي توثّق جوانب مما اقترفته وتقترفه الأيادي الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني منذ اغتصاب وطنه من أبشع أنواع التنكيل وأشرس ضروب الإضطهاد وأشدها قسوة على الإطلاق، من بطش واعتقال واغتيال.
حرب جديدة على غزة
في سياق اقترافاته البغيضة المتواصلة يستأنف هذه الأيام الكيان الصهيوني عملياته العدوانية المعهودة في محاولة يائسة لشق الصف وإحباط المصالحة الوطنية الفلسطينية، فيبدأ في شن حرب جديدة ضد الفلسطينين مستهدفا الأهالي في قطاع غزة، مخالفا بذلك كل المواثيق والقوانين الدولية التي تمنع استهداف المنازل والمدنيين الأبرياء. في سياق هذه الحرب تمكن العدو من تدمير آلاف المنازل والمباني السكنية فوق رؤوس ساكنيها، ضمن غارات جوية بالطيران الحربي أبيدت بسببها عائلات على بكرة أبيها وجموع كبيرة من الناس ما أدى إلى سقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى أغلبهم من الأطفال والنساء وسائر المدنيين العزل. وعلى الرغم من الغارات المتواصلة لم ينجح العدو إلى حد الآن إلا في إلحاق الدمار بالتجمعات السكنية والمستشفيات والمساجد والمدارس والمؤسسات المدنية وسائر المباني وبالتالي فإنه لم يفلح إلا في قتل المدنيين الأبرياء، حتى سيارات الإسعاف لم تسلم من القصف وكذلك مفارز الصليب الأحمر والدفاع المدني، ولم تكن منشآت وكالة غوث اللاجئين خارج دائرة الإستهداف الإسرائيلي، وقد منعت من الدخول إلى قطاع غزة لتقديم الخدمات الإنسانية للأهالي الذي يعانون أوضاعا إنسانية مأساوية في ظل شح شديد في المواد الغذائية والمواد الطبية ومستلزمات الحياة الأساسية. هذه الممارسات تجاوزت كل حدود الفاشية والنازية وقد باتت تعكس بامتياز إرهاب الدولة وترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. لقد فعل العدو كل ذلك غير أنه فشل في ضرب أهداف عسكرية في غزة أو أية مواقع صاروخية تُذكر. لذلك فقد اختل توازنه وفقد صوابه فصب جام غضبه على الأهداف المدنية وظل يُكثف عيها القصف بشكل انتقامي.
الإطاحة بنظرية الأمن الإسرائيلي
وفي خطوة نوعية غير مسبوقة فاجأت المقاومة هذه المرة العدو بأنها قادرة على موازنة الرعب عندما خرجت بقدرات جديدة أمكن معها إيصال الصواريخ المحلية وطائرات بدون طيار إلى العمق الإسرائيلي وإلى مواقع حيوية، ما أدى إلى إثارة الذعر في صفوف المستوطنين وإرباك نظام الحياة الإعتيادية في كل المستوطنات، وقد وصل الأمر إلى توقف أنشطة الملاحة الجوية وإلغاء شركات الطيران الدولية رحلاتها إلى إسرائيل. ولسان حال هذه الخطوة يبلغ رسالة للإسرائيليين مفادها أن المقاومة قادرة على استهداف الغزاة ومواقعهم الرابضة في الأعماق وبالتالي فلا مأمن للصهاينة المغتصبين، وبذلك فقد تحطّمت نظرية العدو الأمنية على إيقاع ضربات المقاومة. فالحرب لم تعد في نظر الفلسطينيين تقاس فقط بعدد الطائرات والبوراج والدبابات والجحافل المدجّجة، وإنما أيضا بالإرادة والصمود والإصرار على تحقيق الهدف مهما تطلب ذلك من تضحيات جسيمة. لقد أقضّ الأداء البطولي المشرّف الذي يبديه الفلسطينيون مضجع العدو الذي يحتاز أقوى قوة عسكرية في منطقة الأوسط ما أفضى إلى مفارقة غريبة ما فتئت تحيط بالإسرائيلين، إذ وصل بهم الأمر إلى الحد الذي جعلهم يطالبون المجتمع الدولي بوقف إطلاق النار ونزع سلاح المقاومة الفلسطينية وهو سلاح متواضع من صنع محلي فالرعب أصاب دولة الإحتلال، فقد جاء على لسان أحد قياداتها أن هذه المعركة هي مسألة وجود، وهذا يعكس بشكل واضح قناعة مفادها المشروع الإسرائيلي في خطر مادامت ثمة مقاومة. لقد أعطت إبداعات المقاومة الدلالات على أن الحصار قد فشل في كسر إرادة الشعب وروح الصمود فيه، كما فشل الحصار في ثنْي المقاومة عن امتلاك الوسائل للدفاع من أجل البقاء.
المقاومة في خط المواجهة أمام التصعيد الإنتقامي
بعد أيام من القصف الجوي بواسطة الطائرات إف 16 والبوارج البحرية على الأحياء المدنية المكتضّة بالسكان في غزة، صعّد العدو عملياته فأقدم على اجتياح القطاع مستخدما أحدث أنواع المدرعات والآليات المصفحة والمدافع والصواريخ التي ظلت تعيث في أحياء المدينة دكّا وتدميرا وإحراقا كأعنف ما يكون القصف العشوائي لاسيما في حي الشجاعية وفي خان يونس وفي بلدات أخرى حيث ارتكب جيش الإحتلال مجازر مروّعة أغلب ضحاياها من الأطفال والنساء والمسنّين، مشاهد مروّعة يشمئزّ منها الضمير الإنساني، فجيش الإحتلال تجاوز الإفراط في استعمال القوة العسكرية في عملياته الإجرامية ضد الأهالي المدنيين في غزّة. ومع هذا فالشعب الفلسطيني في القطاع وفي الضفة والقدس وكل فلسطين يتحلّى بالصبر والثبات ويؤيد المقاومة ويطالب بمواصلة استمرارها باعتبارها الخيار الإستراتيجي للتعامل مع الإحتلال. ولقد شهد القطاع معارك طاحنة واجه خلالها العدو العديد من العمليات النوعية التي ينفذها الأبطال الأشاوس التابعين لفصائل المقاومة الفلسطينية الذين أبلوا البلاء الحسن في أدائهم القتالي الرفيع وكبّدوا الغزاة خسائر فادحة، فقتلوا من جنود الإحتلال العشرات وأصابوا منهم أعدادا كبيرة وأسّروا أحد الجنود، كما دمّروا ونسفوا العديد من آليات العدو القتالية. وفيما الهلع يصيب المناطق الإسرائيلية المتاخمة لقطاع غزة فقد فرّ ساكنوها مذعورين وأصبحت مناطق أشباح، أمّا بسالة المقاتل الفلسطيني فقد أدّت بالكثير من جنود الإحتلال إلى الإقدام على إلحاق الأذى بأنفسهم وإطلاق النار على أقدامهم وأيديهم من أجل الخروج من جحيم القطاع.
هكذا تفعل المقاومة وهي تقفز إلى خط المواجهة وتُؤثّر على مجريات الأحداث مسجّلة الرقم الصعب في معادلة المنازلة غير المتكافئة، فهي حين تنتصر ينهزم الأعداء وعملائهم، وفي انتصارها انتصار للحق المشروع وانتصار للمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين وانتصار لسائر المقدّسات.
الموقف الدولي المتخاذل
وفي غياب أي دور جدّي يتّخذه للمجتمع الدولي من أجل لجم الإحتلال وردعه بغية ضمان حق الشعب الفلسطيني في الحرية وفي حياة كريمة، ألا يحق لهذا الشعب أن يواصل تقدّمه وأن يأخذ بزمام المبادرة ويناضل بكل الوسائل معتمدا على ذاته في الدفاع عن نفسه ضد الممارسات الوحشية ولمواجهة الجحافل الصهيونية المدجّجة؟ أليس من حق هذا الشعب أن يرفض هذا السرطان الخبيث الذي يحاول التجذّر في أرضه؟ أليس من الطبيعي أن يتعرّض أي جسم غريب يدخل الجسد إلى ردّة فعل ومقاومة؟ هل من الجائز أن يُطلق العنان لآلة الحرب الإسرائيلية لكي تفعل الأفاعيل في أبناء فلسطين مقابل أن يتم تكبيل أصحاب الأرض الشرعيين بالحصار والمحاصرة؟ أليست مقاومة الإحتلال حقا تكفله الشرائع السماوية والقوانين الدولية؟ إذن فمن بديهيات المنطق والعقلانية أن يُصنّف ما يقوم به الفلسطينيون نضال شرعي يصب في دائرة المقاومة التي تهدف إلى مواجهة المشروع الصهيوني وإنقاذ ما يمكن إنقاذه إزاء شراسة الهمجية التي ينتهجها هذا الكيان المقيت، الذي يدافع بشكل موصول عن جرائمه وعن استيطانه ضمن حرب مبيّتة يسعى من ورائها إلى تركيع وتجويع الشعب والحد من حماسه النضالي، وهو لا يتورّع عن قلب الحقائق وتزوير المعطيات وترويج الدعايات الباطلة من أجل اختلاق الذرائع لتبرير ممارساته الإجرامية. فما كان لهكذا كيان أن يستمر أمام مسمع ومرأى العالم في ممارسة أعنف ضروب الإرهاب الرسمي ضد شعب بسيط اغتصبت أرضه، وما كان لهذا الكيان أن يتمادى في تلك الممارسات العدائية لو لا احتمائه بحلفائه وبمن يحيطون جرائمه بوافر من أساليب التغاضي وصرف النظر.
وفيما يتراجع الدور العربي تتزايد القناعة لدى الفلسطينيين بالإعتماد على النفس وسط صمت المحيط القريب، فيا لقسوة الجغرافيا أن تكون غزة متاخمة للشقيقة الكبرى حينما تنكرت السلطة الرسمية فيها وتبنّت موقفا تجاوز حدود التخاذل ليصل إلى حد التواطؤ. أمّا الدول الغربية الداعمة للكيان الصهيوني والمعروفة بتحالفها الإستراتيجي وولائها له، فهي أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها شريكة في الإعتداء الغاشم على شعب فلسطين. وفيما القانون الدولي تتعطّل أحكامه حالما يتعلق الأمر بإسرائيل وكذلك حال المواثيق الدولية، فلا يجد المجتمع الدولي ذو المعايير المزدوجة نفسه إلا منجرّا وراء الدعاية الصهيونية فيُصدر تصريحات خجولة ويضع الجلّاد في محل الضحية والعكس بالعكس. كيان متمرّد على القانون يمارس البطش والتقتيل والإبادة دون أن يجد من يلجمه أو يردعه، فقد كان من باب أولى أن يتم الضغط على المُعتدي وإجباره على الإمتثال للشرعية الدولية بما يُفضي إلى سلام حقيقي وعادل بضوابط موثوقة تضمن حقوق الشعب الفلسطيني وفقا للثوابت الوطنية، ولكن هكذا تبقى قضية فلسطين في مهب الريح ما يمثل انحدارا أخلاقيا وإهدارا للقيم الإنسانية وهو الفشل الذريع للمجتمع الدولي في النهوض بمسؤولياته إزاء معالجة قضية شعب يرزح تحت نير الإحتلال الغاشم ووطأة الحصار والإبادة الجماعية المتواصلة، فيا لها من مأساة شعب يعاني أشد الويلات ولا ذنب له سوى أنه يريد استرداد حقوقه المغتصبة!