مفهوم التنمية السياسية مصطلح جديد على العلوم السياسية، توافق ظهوره مع ما عرف بالمدرسة السلوكية وكان هدفه مواجهة الازمات والتحديات التي تعيق سبل التنمية والتطوير والتغلب على حالات الضعف والقصور وتدني مستوى الظروف
السياسية والاجتماعية لدى الدول الطامحة لذلك . مصطلح التنمية السياسية يقع ضمن المفاهيم وليس المعاني ولذلك نجد أنه لم يتم تحديد معنى جامع شامل له حيث انه معقد ومتشابك ومرتبط بعديد المفاهيم والافكار وذلك قدر اهميته وحاجة المجتمع له , ومما لا شك فيه ارتباطه بمفهوم النظام السياسي والحاجة اليه والى توطيده وتثبيت اركانه فالنظام السياسي مرتكز على ظاهرة السلطة "حاكم ومحكوم " وانه يقع ضمن اطار قانوني ينظم تلك السلطة ويحدد طرق حمايتها والتعاطي معها وان هذا النظام يحوي داخله نظاما اقتصاديا تنتهجه الدولة ونظاما اجتماعيا تأخذ به ، ويؤطر علاقات المجتمع عموما . ايضا اننا نعي جيدا اهمية النظام وأن انعدام وجوده يعني الفوضى وانعدام ضوابط موجّهة لحركة المجتمع وكونه يؤمن ضوابط عامة للمجتمع بما يحفظ علاقاته ومصالحه وامنه ويوفر قيم مشتركة سرعان ما تتحول لقيم عامة يتم احترامها والاحتكام اليها وكذلك يعمل على توجيه قدرات وامكانيات المجتمع وتنميتها وتطويرها . كل ذلك يتأتى بما نحن بصدده " مصطلح التنمية السياسية " . هكذا ارتبط المفهوم بعديد المصطلحات وتداخلت مع أهميته مفاهيم وافكار عديدة .
رغم حداثة مفهوم التنمية السياسية الاّ انه حظي باهتمامات البحاث والمفكرين على كل المستويات ولكن ولأهميته في عملية التنمية والحداثة والتطوير ارتبط كثيرا بدول ومجتمعات سادها التخلف وتأثرت بحقب الاستعمار والتبعية ومواجهة مشاكل البناء والتطوّر حيث اطلق عليها الدول النامية ودول العالم الثالث والدول المتخلفة وصارت هي مجالا للبحث والدراسة باعتبارها متميّزة بظروف وحالات ضعف الوعي والثقافة السياسية وانعدام الاستقرار السياسي ويسودها الفساد السياسي والاقتصادي وعدم تحقق العدالة الاجتماعية وقصور في تطبيق مبدأ المواطنة والوعي القومي وضعف الهيئات والمؤسسات الحكومية وهيمنة أيديولوجيا موازية لسلطة الدولة ما يعيق حركة النمو والتطوّر وهنا وجبت الاشارة الى تباين وكثرة الآراء والنظريات والمدارس الفكرية التي تناولت وعالجت قضايا التنمية ومتطلباتها كلّ حسب البيئة والظروف.
مقومات التنمية السياسية :
تهدف خطط وبرامج التنمية السياسية إلى خلق الظروف والبيئة الملائمة للحياة الديمقراطية والسياسية عموما من خلال التركيز على مقومات عديدة أختلف حول عددها ونسب تأثيرها وانواعها وقد حدث نوع من التداخل بينها وبين معوقات التنمية على اعتبار ان معالجة المعوقات حتما يقود بإجراءاتها الى تقويم واصلاح العملية السياسية برمتها واعتبارها من مقومات التنمية ، ولكن عموما يدرسها ويقدمها البحاث والمفكرون مرتبطة ومتداخلة حتى يتسنى الالمام بها واحتواءها ، وقد عدّدها الكتاب والمفكرون وفق هذه النقاط الهامة وهي :
أولا- المشاركة السياسية : تعد المشاركة السياسية أهم مظهر من مظاهر الديمقراطية ، ولذلك لا بد من خلق درجة عالية من الوعي السياسي بالقضاء على الأمية والتخلف بين العامة ورفع سقف حرية وسائل الإعلام، وتفعيل التنظيمات والمنتديات والأحزاب السياسية وجماعات المصالح والضغط، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني وبناء المؤسسات السياسية للقوى المشاركة في العملية السياسية من روابط ونقابات ، وبذلك تعرّف وتعني السلطة آراء ورغبات الجماهير وتوجهاتهم ، المفهوم العام والبسيط للمشاركة السياسية هو حق المواطن في أن يؤدي دوراً معيناً في عملية صنع القرارات السياسية، هذا في أوسع معانيها ، امّا في أضيقها تعني حق ذلك المواطن في أن يراقب تلك القرارات بالتقويم والضبط عقب صدورها من الحاكم ، يقول صموئيل هندنغتون وجون نيلسون عنها " هي ذلك النشاط الذي يقوم به المواطنون العاديون بقصد التأثير في عملية صنع قرار الحكومة ، سواء أكان هذا النشاط فردياً أو جماعياً ، منظماً أو عفوياً ، متواصلاً أو منقطعاً ، سلمياً أو عنيفاَ ، شرعياً أو غير شرعي ، فعالاً أو غير فعال " وهذا ما ذهب إليه د/عبد المنعم المشاط حيث عرّفها بأنها " شكل من الممارسة السياسية يتعلق ببنية النظام السياسي وآليات عملياته المختلفة ، إذ يكمن موقعها داخل النظام السياسي في المدخلات سواء كانت التأييد والمساندة أو المعارضة ، وهي تستهدف تغيير مخرجات النظام السياسي بالصورة التي تلاءم مطالب الأفراد والجماعات الذين يقدمون عليها " . والمعنى الأكثر تداولاً لمفهوم المشاركة السياسية هو " قدرة المواطنين على التعبير العلني والتأثير في اتخاذ القرارات سواء بشكل مباشر أو عن طريق ممثلين ينوبونهم في فعل ذلك " .
وهناك عدد من الباحثين استخدم مفهوم المشاركة السياسية بمعنى " أن تصدر القرارات العليا تعبيراً عن رغبة المجتمع ، ولهذا تتطلب الأمور ظهور العمل النيابي " البرلمان " ، ونظم الانتخابات والاستفتاء والاستعانة بالخبراء " حيث ان العملية السياسية تتم عن طريق ممارسة جموع كثيرة من غير السياسيين ، العمل السياسي وتفعيل سيكولوجيا الاندماج في العملية السياسية ، وهذا يعني إشراك الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم الأثنية والعرقية في الحياة السياسية العامة ، وتمكينهم من أن يلعبوا دوراً واضحاً في العملية السياسية ، أي تكون السلطة عن طريق التمثيل فيها وتعتبر المشاركة السياسية بعداً أساسياً من أبعاد التنمية البشرية عموما ، حيث عرفها إعلان ما عرف بــ " الحق في التنمية " الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1986م عملية التنمية بأنها عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية ، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد ، التي يمكن عن طريقها اعمال حقوق الإنسان وحريّاته الأساسية .
يتضح مما سبق إن العلاقة بين المشاركة السياسية والتنمية البشرية ، هو ان الأولى لازمة لتحقيق الثانية ، إذ لا يمكن تحقيق أهداف التنمية ، بدون مشاركة فعلية وحقيقية من قبل شرائح المجتمع وبمختلف انتماءاتهم الأثنية والإقليمية والاجتماعية وعليه يمكن القول إن المشاركة السياسية تعتبر المظهر الرئيسي للديمقراطية، حيث إن ازدياد المشاركة السياسية من قبل الشعب في العملية السياسية يمثل التعبير الحقيقي عن الديمقراطية ، ولكن من أجل تحقيق مشاركة سياسية فعالة يتطلب تواجد مجموعة من الشروط لتحقيق ذلك، منها رفع درجة الوعي الإسلامي من خلال القضاء على الأمية والتخلف، وحرية وسائل الإعلام، وحرية الرأي والتعبير، وتقوية وتفعيل التنظيمات السياسية الوسيطة من الأحزاب وجماعات مصالح وجماعات ضغط وتفعيل دور المؤسسات والهيئات في الدولة ، كمؤسسات المجتمع المدني باعتبارها أداة مهمة من أدوات مراقبة أعمال الحكومة ، وتحقيق الانتعاش الاقتصادي داخل المجتمع ، وبناء المؤسسات السياسية القادرة على استيعاب القوى السياسية الراغبة في المشاركة السياسية ، وعند توفّر الشروط المذكورة آنفاً من الممكن عندها الحديث عن وجود مشاركة سياسية فعالة من قبل الجماهير، وهذه المشاركة سوف تعود على المجتمع بفوائد عدّة يمكن استخلاصها في هذا الصدد كما يلي :
1ـ إن المشاركة تعني تحقيق مساهمة أوسع للشعب في رسم السياسات العامة وصنع القرارات واتخاذها وتنفيذها
2ـ إن المشاركة السياسية أضحت أحد المعايير الرئيسية لشرعية السلطة السياسية في أي مجتمع .
3ـ إن المشاركة السياسية توفر الأمن والاستقرار داخل المجتمع .
4ـ إن المشاركة السياسية تعني القضاء على الاستبداد والتسلط والانفراد بالسلطة .
5ـ إن المشاركة السياسية تمثل شرطاً أساسياً لتحقيق التنمية في المجتمع .
6ـ إن المشاركة السياسية تلعب دوراً كبيراً في تحقيق الوحدة الوطنية وهي شرط لتحقيق التنمية في المجتمع .
ثانيا - التعددية السياسية : التعددية السياسية تعني عموما الاختلاف في الرأي والرؤى والأفكار والتوجهات وايضا في المبادئ والايديولوجيا بأنواعها السياسية والدينية والعرقية شريطة أن تتوافق مع مصالح الوطن العليا ، والمصالح الاقتصادية والاجتماعية . ولذلك لا بد من وجود الأحزاب والمنتديات والمجاميع الرسمية والشعبية ذات البرامج المختلفة ، تتنافس فيما بينها لخدمة مصالح الوطن والمواطن عن طريق الانتخابات والاحتكام الى الحوار وصناديق الاقتراع بطريقة حرة ونزيهة .
إن التعددية السياسية ظاهرة ليست بالجديدة في المجتمع الواحد وإنما هي ظاهرة قديمة برزت بوادرها بصور مختلفة وبطرق عديدة عبر حقب تطور المجتمعات ، والذي نلاحظه من خلال استعراض سريع لتاريخ التعددية السياسية ، ما يهمنا هنا هو تعريف ظاهرة التعددية الحزبية ، حيث يعرفها د/سعد الدين إبراهيم على إنها " مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية وحقها في التعايش والتعبير عن نفسها والمشاركة في التأثير على القرار السياسي في مجتمعها . بينما يعرفها د/ محمد عابد الجابري بأنها " مظهر من مظاهر الحداثة السياسية التي هي أولاً وقبل كل شيء وجود مجال اجتماعي وفكري يمارس الناس فيه "الحرب" عن طريق السياسة أو بواسطة الحوار والنقد والاعتراض والأخذ والعطاء ، وبالتالي التعايش في إطار السلم القائم على الحلول الوسطية .
والخلاصة التي نستطيع أن نحددها إجمالاً ان التعددية السياسية لها نماذج عدة فمنها التعددية الحقيقية ومنها التعددية الشكلية ، فالتعددية الحقيقية قائمة على وجود أحزاب مختلفة لها برامج وأيديولوجيات ، وهذه الأحزاب تتنافس فيما بينها عن طريق الانتخابات الحرة التي تجري بصورة دورية ، أما التعددية الشكلية فهي في إطارها الخارجي تحمل مظاهر التعددية السياسية ، أي تكون من عدة أحزاب ، ولكن النظام القائم هو أقرب إلى نظام الحزب الواحد ، وهو الحزب المسيطر ، ومن هنا فإن التعددية السياسية تعني الاختلاف في الرأي والطروحات الفكرية واختلاف في البرامج والأيديولوجيات والمصالح والتكوينات الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية.
وعليه فمن الممكن أن نميّز بين التعددية السياسية والتعددية الحزبية ، فالتعددية السياسية تتصف بالشمولية ، أي انها يجب أن تتضمن تعددية حزبية ، لأنها تمثل قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية مختلفة ، أما التعددية الحزبية والتي تعني دخول عدد من الاحزاب في منافسة للفوز وتصدر المشهد السياسي ، ولذلك فإن التعددية الحزبية تعتبر جزءا مكملا للتعددية السياسية .
التعددية السياسية تعتبر أحد الشروط الأساسية لتحقيق الديمقراطية ومظهرا من مظاهرها الأساسية وعنصرا من عناصر وجود الديمقراطية ، مع ملاحظة إن مسألة تحقيقها ليس بالأمر السهل ، لذلك ولا يمكن تحقيق الديمقراطية ، بين عشيةً وضحاها فإرساء نظام ديمقراطي معناه إقامة بنيان متكامل يشمل مكونات عديدة تحوي ضمانات متعلقة بصيانة حقوق الإنسان بما في ذلك حرية التعبير العلني ، وتكوين الجمعيات وسبيل الانضمام إليها وسيادة القانون ، وإجراء انتخابات حرة نزيهة يتنافس فيها الجميع على فترات دورية ، ووجود نظام متعدد الأحزاب يسمح بتداول السلطة بصورة رسمية ومنظمة ، وفوق ذلك ضرورة وجود نظام للضبط والمراقبة يجعل المنتخبين للمناصب العامة مسؤولين مسؤولية كاملة أمام الناخبين " لذلك فانّ مبدأ إقرار التعددية السياسية لا يعني تحقيق الديمقراطية ، فالديمقراطية تعني قبل كل شيء منع احتكار السلطة والثروة من قبل فئة أو جهة واحدة أو طائفة اجتماعية معينة ، أو بدون التداول السلمي للسلطة ، وتوزيع الثروة بين الجميع وفقاً لمبدأ تكافؤ الفرص ومبدأ الاستحقاق والجدارة ، وبدون ذلك فانه من الصعب الادّعاء بتحقيق الديمقراطية .
بهذا المعنى تعتبر الديمقراطية شكل من أشكال ممارسة السلطة ، على أن يكون هناك اتفاق ووئام بين جميع أعضاء الجماعة الوطنية والقوى والأحزاب السياسية ، على شكل الممارسة ، فالمسألة الديمقراطية تبقى شكلية دون مساهمة الجميع في ممارستها ، بحيث تحقق في النهاية الوحدة الوطنية عن طريق مشاركة جميع القوى الوطنية السياسية والاجتماعية المؤثرة في المجتمع التي بإمكانها المشاركة في عملية صنع واتخاذ القرار السياسي والحفاظ على مبدأ تداول السلطة عن طريق مبادئ متعارف عليها اهمها ، مبدأ سيادة القانون ومبدأ عدم الجمع بين السلطات ومبدأ لا سيادة لفرد ولا قلة على الشعب وأخيرا مبدأ ضمان حقوق الافراد .
ووفقاً لذلك فالديمقراطية بهذه الحالة ليست فقط أحزاب أو انتخاب، وإنما هي مجموعة من الأفكار والقيم التي ينتجها أفراد المجتمع عن طريق مؤسسات التنشئة السياسية والتوجيهية، وإن أهم هذه القيم هي الإيمان بالتعددية الحزبية والتسامح السياسي والفكري وقبول الآخر .
وبعبارة أخرى إن الديمقراطية هي المشاركة السياسية وحقوق الإنسان، وهذا جوهر التعددية الحزبية ، فالتعددية الحزبية تعني التسامح واحترام حقوق الآخرين وحق الفرد في اختيار من يمثله في السلطة وضمان حقه في عملية صنع القرار السياسي ، وإن الإطار القانوني والمؤسسي لنظام التعددية السياسية والحزبية الذي يجب أن يقوم عليهِ النظام السياسي في أي بلد هو :
1ـ إن الشعب هو مالك السلطة ومصدرها ، ويمارسها بشكل مباشر عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة، كما يمارسها بطريقة غير مباشرة عن طريق المجالس المحلية والمنتخبة .
2ـ يجب أن يقوم النظام السياسي على التعددية السياسية والحزبية وذلك من أجل تداول السلطة سلمياً وتنظيم الأحكام والإجراءات الخاصة بتكوين التنظيمات والأحزاب السياسية وممارسة النشاط السياسي، ولا يحق استغلال الوظيفة العامة أو المال لمصلحة خاصة بحزب أو تنظيم سياسي معين .
3ـ يجب أن يقوم المجتمع على أساس التضامن الاجتماعي القائم على العدل والحرية والمساواة .
4ـ جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات العامة .
5ـ يجب أن تكفل الدولة حرية الفكر والتعبير عن الرأي وحرية الصحافة والاعلام .
6ـ كل مواطن له الحق في الانتخاب والترشيح وإبداء الرأي في الاستفتاء .
7ـ الاعتماد على مبدأ حرية النشاط الاقتصادي .
8ـ العمل على مبدأ تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً .
ثالثا - التداول السلمي للسلطة : من أبرز آليات الديمقراطية التداول السلمي على السلطة التي تحدث عادة من خلال التصويت والحصول على أغلبية أصوات الناخبين . حيث لا تكون حكرا على فرد أو حزب معين على حساب مصالح الشعب ، وإنما يتم تداول السلطة وفقًا لأحكام الدستور والذي يعد السلطة العليا، ولا تعلوها أية سلطة أخرى وهو الناظم والمرجعية عند حدوث أي خلل او تجاوز . والمقصود بالتداول السلمي على السلطة ، هو عدم جعل الحكم في قبضة شخص واحد ، أي التعاقب الدوري للحكام في ظل انتخابات حرة ، وبذلك سوف يمارس هؤلاء الحكام المنتخبون اختصاصاتهم الدستورية لفترات محددة سلفاً ، وبهذا سوف لن يتغير اسم الدولة ولا يتبدل دستورها ولا شخصيتها الاعتبارية بتغيير الحكام والأحزاب الحاكمة ، وبهذا فإن السلطة هي اختصاص يتم ممارسته من قبل الحاكم بتخويل من الناخبين وفق أحكام الدستور، أي أن السلطة ليس حكرا على أحد ، وإنما يتم تداول السلطة وفقاً لأحكام الدستور الذي يعتبر السلطة الذي لا تعلوه سلطة أخرى .
يتضح مما تقدم ان مبدأ التداول السلمي على السلطة من قبل الأحزاب والحركات السياسية يعتبر من أبرز آليات الممارسة الديمقراطية ، فمن غير الممكن الحديث عن قيام دولة ديمقراطية ما لم يكن هناك إيمان واعتراف بمبدأ التداول السلمي على السلطة من خلال تبادل الحركات والأحزاب لمواقع الحكم داخل الدولة وهذا يعني إن السلطة السياسية لم تعد حكراً على أحد أو لحساب حزب معين أو جهة معينة على حساب مصلحة الآخرين ، وإنما السلطة يتم إدارتها من قبل الأحزاب والحركات السياسية التي تحصل على الأغلبية من أصوات الناخبين أثناء العملية الانتخابية، ولهذا فإن مبدأ التداول السلمي على السلطة قائم على أساس المنافسة الحرة مابين القوى السياسية ، حيث تصير المنافسة وفقاً للأحكام الدستورية والقانونية، دون الخروج عنها، لأن الخروج عنها يعني الخروج عن القانون والنظام، ومن ثم الخروج عن الديمقراطية بل مفاهيمها، لذلك فالتداول السلمي على السلطة، يعني الاعتراف بشرعية النظام السياسي من قبل الشعب ومزاولة ذلك النظام لأعماله الدستورية وفقاً للقانون، وهذا الأمر بحد ذاتهِ يعتبر ترسيخ لأسس وقواعد الوحدة الوطنية، لأن الشعب بكل طوائفه، أغلبية وأقلية ممثلاً في هذه السلطة وحقهُ مصان وفقاً لأحكام الدستور، وبهذا يصبح جميع أفراد المجتمع ينتمون بقوة إلى المجتمع، ويشاركون بصورة فعاله في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويتمتعون بنصيب عادل من عوائدها، وبالتالي فإن ذلك سوف ينعكس بشكل إيجابي على أمن واستقرار البلد، وذلك لأن مسألة تداول السلطة ومشاركة الجميع فيها، ومن خلال قنواتها المعروفة، سوف يحقق نوع من الإجماع السياسي، الذي يعتبر أساساً لبناء وتحقيق الديمقراطية.
رابعا - حماية واحترام حقوق الإنسان : والمقصود هنا الاجراءات التي يعمل بها على المستوى الدولي والوطني، لبيان مدى الالتزام بحقوق الإنسان ، وكشف الانتهاكات ضد الأفراد والجماعات، واحالتها للقضاء للفصل فيها ، ولذلك لا بد عن وجود ضمانات وأدوات ووسائل للتعاطي معها ولحمايتها.
إن مسألة حقوق الإنسان والاعتراف بها من قبل الدساتير والتشريعات الداخلية في الدولة أو في الاتفاقات الدولية والإقليمية لم يتحقق لها الاحترام والفاعلية المطلوبة ما لم يكن هناك ضمانات تعمل على حمايتها، والمقصود هنا بالضمانات الوسائل والأساليب المتنوعة التي يمكن بواسطتها حماية الحقوق والحريات من أن يعتدى عليها ويقصد بحماية حقوق الإنسان "مجموعة الإجراءات التي تتخذ على الصعيد الدولي والإقليمي وعلى الصعيد الوطني من قبل الجهات المختصة في بلداً ما ببيان مدى التزام سلطات هذا البلد بحقوق الإنسان والكشف عن الانتهاكات المرتكبة ووضع المقترحات لوقف هذه الانتهاكات بإحالتهِ إلى القضاء الوطني أو إلى قضاء دولي لمحاسبتهم" .
في سياق هذا المفهوم لحقوق الإنسان وممارستهِ في مجتمع ما، فإن هذه الحقوق لا تحقق بمجرد النص عليها في دستور الدولة وقوانينه ولا بمصادقة هذه الدولة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته ، فممارسة الحقوق والحريات لا نجدها إلا في ظل مجتمع حر يتمتع بنظام حر، والصفة الرئيسة التي تميز هذا النظام هي خضوع سلطة الحكم للقانون عن طريق الضمانات التي تكمل الحقوق والحريات العامة ، والتي في جوهرها عبارة عن مبادئ قانونية تضمن انصياع السلطة لمطالب الحرية ، ويمكن إن نتناول هذه المبادئ على الشكل الآتي :
1ـ مبدأ سيادة القانون : يعتبر من أحدى الضمانات الأولى والمبدئية لحماية حقوق الإنسان، حيث تخضع سلطة الحاكم في الدولة للقانون خضوع المحكومين له وفقاً للدستور الذي يضع قواعد الحكم الأساسية ، ويقرر الحقوق والحريات الخاصة للأفراد والجماعات ، وبهذا يتحقق للأفراد الاطار القانوني في مواجهة سلطة الحكم .
2ـ مبدأ الفصل بين السلطات : والمقصود به هنا هو المؤسسات والهيئات العامة الحاكمة في الدولة وهي حسب وظائفها تقسم إلى ثلاثة سلطات تشريعية – تنفيذية – وقضائية . والمراد هنا بالفصل بين السلطات الثلاث كضمانة من ضمانات حقوق الإنسان، هو أن تكون لكل سلطة من السلطات الثلاث اختصاصاتها المحدودة ، بحيث تكون كل سلطة منفصلة عن الأخرى انفصالاً مرناً ، وذلك لمنع قيام حكم مستبد بتركيز السلطة بيد واحدة أو جهة واحدة، وبحيث تمارس كل سلطة رقابتها على الأخرى مع ضمان الحريات والحقوق في المجتمع .
والفصل بين السلطات يعني عدم تركيز السلطات في الدولة في يد واحدة أو هيئة واحدة ، فالشخص لا يجوز له أن يتولى أكثر من وظيفة واحدة من وظائف الدولة الثلاثة ، التشريعية والتنفيذية أو القضائية، فمثلاً لو اجتمعت السلطة التشريعية أو التنفيذية في يد واحدة فقد يحدث أن يعّدل القانون لمراعاة أغراض شخصية وبذلك يفقد التشريع الغرض الأساسي له وهو وضع قواعد عامة مجردة لتطبق على كل الحالات .
3ـ مبدأ الفصل بين السلطتين المدنية والعسكرية : المقصود هنا بهذا الفصل هو عدم تدخل السلطة العسكرية في الشؤون السياسية ، ومنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية وعدم ممارسة العسكريين للسلطة القضائية.
4ـ مبدأ استقلال السلطة القضائية : القضاء بمعناه العام هو الفصل بين الناس في الخصومات والنزاعات على سبيل الإلزام ، ودور القضاء كبير في المجتمع وذلك لإنصاف المظلومين ، فالقضاء هو الوسيلة التي تسترجع بها الحقوق إلى أصحابها وتُصان بها الحريات والأعراض والأموال ، وإن قيام القضاة بأداء وظائفهم بحرية واستقلال يعد من أكبر الضمانات لحماية الحقوق والحريات العامة والخاصة ، وهذا يعني أن يتساوى أمام القضاء الجميع تحت سماء العدالة ، ويقوم مبدأ استقلال القضاء على مبدأ أساسي وهو "أن تحقق المساواة والعدالة في الحكم القضائي، يجب أن يتمتع القاضي بالاستقلال التام والحرية الكاملة في عملية اتخاذ القرار القضائي" .
5ـ مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين : المقصود هنا بالرقابة القضائية، هو حماية حقوق الإنسان من تجاوزات السلطة التشريعية، وذلك من خلال منع المشرع من انتهاك المبادئ التي تهدف لضمان حقوق الإنسان أثناء عملية تشريع القوانين، ولتحقيق هذا الهدف يجب إنشاء محكمة دستورية عليا يكون اختصاصها الحكم بإلغاء القانون إذا ثبت عدم دستوريته، وتتجسد الرقابة في وجوب خضوع القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية للرقابة القضائية للتأكد من مطابقتها للنصوص الدستورية .
6ـ مبدأ الرقابة القضائية على تصرفات الإدارة وقراراتها : وهذا المبدأ يختص بحماية الحقوق والحريات من تجاوزات السلطة التنفيذية ، وذلك من خلال مراقبة أعمال الحكومة والإدارة عن طريق السلطات القضائية والتي تشمل تصرفات الإدارة وقراراتها ، وفي حالة ثبوت الإساءة في استعمال السلطة فتقوم السلطة القضائية برد الأمور إلى ما كانت عليهِ، وتصحيح الخطأ والحكم بتعويض المتضررين .
الخاتمة .
من المسلّم به أن قضية تحقيق التنمية الشاملة في أي مجتمع تستلزم توافر وتضافر جملة من الشروط والعناصر التي لولاها سيتحول كل جهد تنموي إلى ضرباً من العبث ، وتعد خطط وبرامج التنمية السياسية من أهم تلك العناصر ، والتنمية السياسية بدورها يعتبر أحد مقوماتها الجوهرية وركائزها هو بناء التنمية الإنسانية الشاملة ، باعتبارها تغيير حضاري وهي عملية واعية ومخططة وذات طبيعة شمولية تبدأ بالتعرف على الواقع والمعوقات ولا تنتهي برامجها لتجدد اهدافها واستمرارية الحاجة اليها ، فالدول والشعوب لا تنهض بدون توفر عناصر نجاحها وبدون توفر نخب وشعب يمتلك على الاقل الحد الادنى من الوعي والنضوج وبالتأكيد العزيمة والاصرار على النهوض والتطوّر ، وهنا تجدر الاشارة الى جانب مهم وسؤال جوهري حول مجتمعات ودول نجحت ولازالت تحقق نجاحات في مجال التنمية وأسباب اجتيازها مراحل التنمية بكفاءة واقتدار وصعودها وتطورها المتميّز ، ماهي اسباب النجاح ؟ وعوامل تحققه والنخب والقادة الفاعلين والمؤثرين المساهمين في ذلك ؟ وهل هؤلاء القادة سينجحون في بيئات وظروف مختلفة ؟ هل سينجح لي كوان قائد سنغافورة ومخاتير زعيم ماليزيا في دول أخرى مثل نيجيريا والسودان مثلا ؟؟
بالتأكيد أن مخاتير ولي كوان ومن على شاكلتهما قادة عظام ولكن أيضا البيئة والظروف والنخب لها دورها وستفعل فعلها وستختصر الجهد والوقت وتسرّع في الانجاز والوصول ، فالعوامل كلما تظافرت وشكلت عوامل نجاح وهكذا هي مراحل وخطط التنمية.
تجدر الاشارة الى أن التنمية السياسية قد أفرد لها الاهتمام الكبير من قبل عديد البحاث والمفكرين بدول العالم المتقدم والنامي والمتخلف وكل أدلى بدلوه فيها وحسب وجهة نظره وبيئته ولهذا كان لزاما أن يتم التعاطي معها وفق البيئة والواقع المعاش وعدم الانجرار خلف رؤى وافكار قد لا تخدم واقع وظروف دول أو مجتمعات وأخذها من مبدأ المسلم بها وأنها وردت من جهات يشهد لها ، وعدم التأثر بالنماذج الغربية أو نماذج لا تتناسب ولا تتوافق مع البيئة والواقع .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ورقة بحثية اعدت للمشاركة في ورشة عمل بالأكاديمية الليبية طرابلس بالتعاون مع المركز الليبي للدراسات والأبحاث وقسم الدراسات الإقليمية بمدرسة العلوم الإستراتجية والدولية بتاريخ : 2021.05.19 م بعنوان: التنمية السياسية في بلدان الجنوب ( الانجازات والتحديات ).