سطور ضئيلة مع بعض الكلمات هي ليست من الكفاية في شيء إذا خصصناها للحديث عن رجل في حجم عمر المختار، لكن حسبنا فقط أن نستحضر ذكراه إجلالا لقدره ومكانته، في غمرة إحياء الليبيين الذكرى السادسة والثمانين لاستشهاده. إنه ذلك البطل الذي قاوم الإحتلال الإيطالي ببسالة على مدى عقدين من الزمن أمضاها وهو يجوب الصحاري والجبال والوديان مقارعا الأعداء بكل إقدام وصبر وثبات..
لُقب بشيخ الشهداء وليس ذلك بغريب، فقد بلغ من العمر عُتيا وهو يناضل إلى آخر رمق في حياته، ويقود المجاهدين بحنكة عسكرية منقطعة النظير ويخوض معهم المعارك بمهارة فائقة ويشارك ببسالة في القتال ويخطط للعمليات التي كانت في الأغلب تكلّل بالنجاح وتوقع أفدح الخسائر للغزاة في قوتهم البشرية وعتادهم الحربي. هذه العمليات الضارية أرهبت قوات الإحتلال وجعلتهم يصابون بالخيبة والإحباط. وظل في الأثناء يواجه أحدث آلات الحرب وهو مقبل غير مدبر ولا ممعن هربا ولا مستسلم..
عاش عمر المختار حرب التحرير بامتياز وكان من أشد المحرضين على مواصلة المقاومة، رافضا أي شكل من أشكال الإتفاقيات التي تفضي إلى الخضوع للحكومة الإيطالية، أو التصالح مع الغزاة، كما رفض تقلّد أي مقام أو القبول بأي إغراء مادي مقابل التخلي عن المقاومة.. فلم يذعن يوما لدعوات الإستسلام والرضوخ، غير أنه اختار فقط الوطن والتضحية والفداء من أجله ولا شيء غير ذلك، فكان مآله أن حظي بالشهادة في سبيل الله..
لــم تــبــْـن جــاهــاً أو تـلُــمّ ثــــراءً، خُيّرت فاخترت المبيت على الطوى
ليس البطولة أن تعبّ الماء، إنّ الــبطــولـــة أن تــمــوت مــن الظـمــأ
هكذا فعل ولم يغره متاع الدنيا، ولم يستعطف الأعداء عندما وقع في الأسر بل واجههم بنبرة جريئة ومنطق عقلاني مليء بالتحدي والثقة ولم يستكن إلا لله. وعندما مثل أمام المحكمة لم يفاجأه منطوق الحكم، إذ لا غرابة في ما يصدره الغزاة من أحكام في حق المناضلين، فصعد المنصّة بشموخ وواجه حبل المشنقة بكل رباطة جأش مزدريا جلاديه وحكومتهم الفاشية وهو يردّد الشهادة "لا إله إلا الله" وكان ذلك آخر ما نطق به..
ولد عمر بن المختار بن عمر المنفي الهلالي في سنة 1858 م في الشرق الليبي بمنطقة البطنان بالجبل الأخضر، وتربّى يتيما. تلقى تعليمه الإبتدائي بالزوايا السنوسية، ثم انتقل إلى الجغبوب حيث نال قسطا من التعليم درس خلاله اللغة العربية والعلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم.
عاش عمر المختار حياته فقيرا متواضعا، وكان تقيّا ورعا لا يخشى في الحق لومة لائم.. وكان يتمتّع بشخصية مؤثرة، وهو دوما حاضر الذهن سريع البديهة، كما أنه يتميز بالذكاء والثقافة وسعة الإطلاع، علاوة على تواضعه وحسن أخلاقه.
يوم التاسع عشر من سبتمبر 1931، نُفذ حكم الإعدام في عمر المختار بمقتضى محاكمة صورية، وكان حينئذ في عامه الثالث والسبعين من العمر. حدث ذلك في مدينة سلوق أمام جموع من أبناء وطنه، إمعاما من الغزاة في الإنتقام ومحاولة منهم في تدمير الروح المعنوية للمجاهدين الليبيين وتقويض الحركة الوطنية المناهضة للحكم الإيطالي في البلاد، لكن حساباتهم لم تكن صائبة، فقد انتهى الأمر أخيرا بإنهاء الإحتلال ونيل الإستقلال..
كان لخبر إعدام عمر المختار صدى كبير في العالم الإسلامي وحتى على الصعيد العالمي، وحظي بتعاطف وإعجاب الجموع الكبيرة من الناس في أرجاء المعمورة، كونه طاعنا في السن وواجه حكم الإعدام بكل شجاعة وثبات بعد أن كرّس حياته مناضلا من أجل وطنه.. لذلك فقد اعتبر بطلا قوميا ورمزا مؤثّرا استرعى انتباه الكثير من المسلمين والعرب من الذين كانت أوطانهم ترزح حينئذ تحت نير الإحتلال الأوروبي، وهو ما كان له الأثر في التمسك بخيار المقاومة من أجل التحرّر.
هكذا دوما هو التاريخ يخلّد الشرفاء في صفحاته المضيئة، ويلقي بمن هم عكس ذلك في أحلك الصفحات.