كان السابع عشر من أكتوبر 2023، موعدًا ضربته المقاومة الفلسطينية مع عملية عسكرية واسعة نفّذتها ضد الكيان الإسرائيلي، تحت عنوان "طوفان الأقصى"، تمّت بوسائل غير مسبوقة على ثلاثة محاور؛ بري وبحري وجوّي 

مُجريات العملية

كان عناصر من المقاومة قد اخترقوا الأجواء الإسرائيلية على الحدود مع غزة بطائرات شراعية، فيما اقتحم مقاتلون آخرون السياج الفاصل بدراجات نارية وسيارات دفع رباعي وسيرا على الأقدام، أما الهجوم البحري فقد نُفّذ باستخدام ضفادع بشرية، وتزامنت هذه العملية مع إطلاق وابل كثيف من الصواريخ من القطاع على أهداف إسرائيلية. وفي الأثناء تمكن أفراد المقاومة من التّسلل إلى بلدات تابعة للكيان المُحتلّ في غلاف غزة، حيث قاموا بمهاجمة أهداف عسكرية ما أسفر عن قتل وأسر مئات من ضباط وجنود جيش الإحتلال، مع احتجاز عدد من المستوطنين، كما تم الإستيلاء على معدّات حسّاسة ووثائق هامّة. واللافت أن القوات المهاجمة هي وحدات غير نظامية تعمل بأسلوب الفصيل، ومع ذلك إستطاعت مداهمة مواقع للعدوّ تضم قوّة بشرية ومعدّات قتالية كثيرة، وهو ما أصاب دولة الإحتلال بصدمة غير مسبوقة.
في قراءة متأنّية لهذه العملية الجريئة من منظور عسكري، يتبيّن أنها نُفّذت باقتدار وبمراعاة واضحة لمبادئ الحرب، ولا سيما مبدأ الأمن والتحشّد والمباغتة والتعاون وانتخاب الهدف وقابلية الحركة والمناورة، علاوة على الروح المعنوية العالية. وكان عنصر المباغته من بين العوامل الأكثر تأثيرًا في مجريات التنفيذ، أمّا التعاون فقد تجسّد في أحسن صوره كأروع ما يكون التنسيق بين صنوف الأسلحة الثلاثة. وفي الأثناء لعب مبدأ انتخاب الهدف، دورًا محوريًّا في مجريات العملية، وتجسّد في التعامل مع 22 هدف عسكري تم اختيارهم داخل مستوطنات غلاف غزّة.

ولا بُدّ من الإشارة إلى المرونة التي كانت هي الأخرى حاضرة في مسارات العملية الهجومية وتجسّدت في السّرعة وقابلية الحركة والمناورة عبر المحاور الثلاث المُستخدمة. ولعلّ مبدأ الأمن يتجلّى في نجاح المقاومة في تأمين خطوطها الداخلية في القطاع وتأمين سبل تنفيذ المناورة مع سرّية الإعداد والتحضير للعملية، وهو ما يعكس فشلا إستخباراتيًّا ذريعًا للموساد وحتّى لمخابرات الدول المؤيدة للكيان الإسرائيلي إقليميًّا ودوليًّا.. ولا ننسى الروح المعنويّة العالية التي كانت راسخة في مقاتلي المقاومة من منطلق الإيمان بالله وبقضية بلدهم، وهو ما دفع بهم إلى استيعاب وتبنّي أحاسيس الإقدام وبواعث الشجاعة والتضحية فداءً للوطن.
وقع العملية على الإسرائيليين
الكل يعلم حجم القوّة العسكرية الإسرائيلية؛ ملاك بشري ضخم، عتاد حربي وترسانات كبيرة من صنوف المعدّات القتالية الأحدث نوعًا والأكثر فتكًا، يُضاف إلى ذلك جهاز "الموساد" الإستخباراتي، صاحب النفوذ الواسع إقليميًا وعالميًّا.. هذه الإمكانيات جعلت من الجيش الإحتلال الأقوى في الشرق الأوسط، وواحدا من بين أكبر أربعة جيوش في العالم.
تلك القدرات العسكرية والأمنية والإستخباراتية من شأنها أن تُصيب العدوّ بالغرور وتجعله منبهرًا بقوته العسكرية الرائدة، مزهُوًّا بما تعُج به ترسانته الحربية من إمكانيات هائلة، الأمر الذي ولّد في نفسه إنطباعًا بأنه يملك جيشًا لا يُهزم ولا يُشقّ له غبار، فظلّ يروّج لأسطورة الأمن والقوّة الضاربة الذي لا تُقهر!
لكنّ المفارقة أن كل هذا الثقل العسكري والإستخباراتي، لم يشفع للإحتلال من أن ينجو من تبعات الهزيمة المنقطعة النّظير التي تكبّدها على إثر عملية طوفان الأقصى التي أثبتت أن جيش الإحتلال قابل للإنكسار، وقد تجرّع كأس الهزيمة على أيادي بضعة فصائل من المقاومة الفلسطينية، فاختلّ توازنه فاقدًا الصواب ودبّ الإضطراب في صفوفه.
الحرب الهستيرية على غزة
تحت غطاء ودعم عسكري أمريكي وأوروبّي وبذريعة "حق الكيان في الدفاع عن نفسه"، عمد جيش الإحتلال إلى شن حرب إنتقامية جديدة مُتجدّدة ضد الفلسطينين مستهدفًا الأهالي في قطاع غزة، وقد تعمّد تدمير عشرات الآف من المنازل والأحياء السكنية المُكتضّة فوق رؤوس قاطنيها، ضمن غارات جويّة ما أدّى إلى استشهاد الآلاف من المدنيين العزّل أغلبهم من النساء والأطفال، ناهيك عن آلاف الجرجى، تمّ ذلك على مرأى ومسمع العالم، وفي مخالفة واضحة لكل المواثيق والقوانين الدولية التي تمنع استهداف المنازل والمدنيين الأبرياء.
وبحلول 27 أكتوبر صعّد العدو عملياته، في محاولة منه للقضاء على قوى المقاومة وتدمير مواقعها والعثور على أسراه، فتجرّأت قواته بتشكيلاتها المدرّعة على التوغل البرّي في القطاع مستخدمةً أحدث أنواع الدبّابات وناقلات الجنود والجرّافات وسائر المعدّات التي ظلت تعيث في أحياء المدينة، بمساندة الطيران الحربي، دكًّا وتدميرًا وإحرقًا كأعنف ما يكون القصف العشوائي.
وعلى الرغم من الغارات المتواصلة لم ينجح العدو إلا في إلحاق الدمار السّاحق بالتجمعات السكنية والمساجد والمؤسسات المدنية وسائر المباني وبالبنية التحتية عمومًا، وبذلك لم يفلح إلا في قتل جمهور غفير من المدنيين الأبرياء في إبادة جماعية رهيبة. وليس هذا فحسب بل لجأ إلى مهاجمة المستشفيات والإعتداء على الأطقم الطبية وقتل وتشريد المرضى بمن فيهم الأطفال.. وفي غضون ذلك تم قصف المدارس التي لجأ إليها جموع من سكان القطاع، كما تم استهداف سيارات الإسعاف، وحتى المنشآت التابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين (الأونروا) لم تسلم من التدمير.. ولم يكتف العدوّ بكل ذلك بل تعمّد قطع الكهرباء وتدمير منظومات الطاقة الشمسية وأغرق القطاع في الظلام، وعرقل دخول الوقود والأغذية ومياه الشرب والمواد الطبية إلى القطاع.
وإلى حدّ كبير، إن ما تعرّض له أهالي غزّة من مجازر رهيبة ومن ترويع وإزهاق إجمالي، يشكل كارثة إنسانية من الحجم الثقيل، وهو ما يعكس بامتياز الإرهاب المنظم لدولة الإحتلال ويرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب. بالفعل تمكّن العدوّ من إقترف كل ذلك غير أنه فشل في ضرب أهداف عسكرية أو أية مواقع صاروخية تُذكر داخل القطاع، أو الوصول إلى أسراه. لذلك فقد ازداد اختلال توازنه فصب جام غضبه على الأهداف المدنية التي ما فتئ يُكثف عليها القصف بشكل جُنوني.
دور المقاومة الباسل.
وبالمثل واصلت المقاومة من غزة هجماتها على أهداف ومواقع حيوية في العمق الإسرائيلي مًستخدمةً أسلحة صاروخية أغلبها من صنع محلّي أو مما تم تطويره بقدرات ذاتية داخل القطاع، ما أحدث إرباكا شاملَا لسيرورة الحياة الإعتيادية في مختلف المستوطنات، ومن ذلك حركة نزوح داخلي وهروب بالجملة إلى الخارج.
وعلى منهجية تكتيك حرب المدن تأهّبت المقاومة لتضرب موعدًا مع التشكيلات المدرّعة لجيش الإحتلال، التي ما إن توغّلت داخل القطاع حتى كانت لها الفصائل بالمرصاد؛ كمائن مبيّتة، إستهداف وقنص عن بعد أو من المسافة صفر، إشتباكات متلاحمة وعمليات إستشهادية، إعطاب أو تدمير وإحراق للمدرّعات والآليات بواسطة الصواريخ وأسلحة م/د.. حتّى أصبح لا يمر يوم من دون أن يتكبّد جيش الإحتلال خسائر بشرية جسيمة وتدمير ساحق لمعدّاته، وعلى الرّغم من محاولة إعلامه الحربي التقليل من حجم خسائره، غير أن المشاهد الموثّقة الصادرة من المقاومة على أرض المعركة واضحة للعيان.
إستئناف القتال بعد انقضاء الهدنة.
ومع دخول الهدنة حيّز التنفيذ بحلول 24 نوفمبر الماضي، أطلقت المقاومة عشرات المُحتجزين الإسرائيليين مقابل إفراج دولة الإحتلال على سجناء فلسطينيين كانوا في سجونها. وبمجرّد انقضاء فترة الهدنة، التي دامت سبعة أيام، دشّنت قوات الإحتلال مرحلة جديدة من حربها على غزة بموجات متتابعة من الغارات الجوية والبحرية الشّرسة على القطاع بالتزامن مع استخدام القوات البرية، ضمن إستراتيجة الأرض المحروقة وأسلوب التطهير العرقي، وذلك في محاولة للتعويض عن إخفاقاتها العسكرية في مواجهة الأداء البطولي لفصائل المقاومة التي ما برحت تردّ على العدوان بوابل من الصواريخ على بلدات إسرائيلية فيما تواصل تصدّيها وتدميرها الساحق لقوات العدو المتوغلة داخل القطاع.
الخلاصـة.
بعد مضي أكثر من شهرين على طوفان الأقصى وإلى وقت الإنتهاء من كتابة هذا المقال، لم يتمكن العدوّ من تحقيق أي هدف عسكري يُذكر داخل القطاع، في وقت أيقنت فيه قواته أن المقاومة الباسلة تُبقي على عنفوانها لتشكل رقما صعبا في صميم المواجهة، بينما تتمسّك الفصائل بزمام المبادرة لتواصل مهمّتها في تدمير تشكيلات جيش الإحتلال وتكبيده الخسائر الجسيمة في الأفراد والعتاد، لتثبت مُجدّدًا أن الحرب لا تُقاس فقط بما يمتلكه العدو من تكنولوجيا ووسائل قتالية في غاية التطوّر، وإنّما تُقاس في الأغلب بما هو أقوى من ذلك؛ إنها الإرادة والعزيمة والإصرار على تحقيق الغاية المنشودة مهما كلّف ذلك من تضحيات.
وهكذا على مرّ الزمان وكما نُشاهد، تظل الأجيال الفلسطينية المتعاقبة على العهد، ملتزمةً بالثوابت الوطنية، مستمدّةً قوّتها من التّوكل على الله، ومُستعينةً بالرّوح المعنوية والقناعة الرّاسخة بعدالة القضية التي يُكافحون من أجلها.. ولسان الحال يقول "النصر أو الإستشهاد"، أمّا مصير الإحتلال فهو لا محالة إلى زوال عاجلًا أم آجلًا.
إن عملية طوفان الأقصى، مع أنها إمتداد لحركة المقاومة الفلسطينية، فقد فتحت في ذات الوقت آفاقا جديدة على صعيد النضال من أجل التحرّر، ومن نافلة القول إن انتصار المقاومة هو انتصار للحق المشروع وانتصار للمسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين.

 

Star InactiveStar InactiveStar InactiveStar InactiveStar Inactive