الردع كتعبير عسكري يعني ببساطة اتخاذ دولة ما, جُملة من التدابير بغية صرف نظر خصمها المحتمل عن التفكير في شن أعمال عدائية ضدها، وذلك من خلال بث الذعر في هذا الخصم إلى الحد الذي يجعله على قناعة بأن العواقب المترتّبة ستكون وخيمة وأن حجم الخسائر والتكاليف سيتجاوز بكثير ما كان يتوقعه من فوائد ويستند هذا المفهوم على قانون إفتراضي

مفاده أن القوة المضادة هي الحل المثالي للتعامل مع القوة المتاحة لدى الخصم، أو بعبارة أخرى أن القوة هي أنجع علاج للقوة. في العصر الحديث ومع ظهور القنبلة الذرية ارتبط مفهوم الردع بالسلاح النووي، وقد أصبح هناك ما يُعرف بالردع النووي، الشيء الذي لم يكن موجودا قبل نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد يكون من المفيد أن نستهلّ الحديث عن مسألة الردع النووي بالتذكير بلمحة سريعة عن مفهوم الأسلحة النووية وطرق إطلاقها. المعروف أن فعالية السلاح النووي تعتمد على الطاقة الفائقة الموجودة في نويات بعض العناصر الثقيلة، و تتولّد هذه الطاقة من خلال تفاعلات معيّنة، وهذه النويات إمّا أن تكون إندماجية أي تتوحّد فيها النواة، أو إنشطارية تصبح فيها النواة اثنتين، وبفعل هذه التفاعلات تنتج طاقة هائلة. ويمكن لنا إدراك مقدار عظمة هذه الطاقة إذا أخذنا بعين الإعتبار سرعة الضوء البالغة 300 ألف كيلو متر في الثانية. وتُقاس قوة الأسلحة النووية بمقدار ما يعادلها من طاقة تفجيرية للمواد شديدة الإنفجار المتمثلة في مادة ثلاثي نترو التّلوين (TNT) ويعرف هذا المعادل بالعيار. والكيلوطن هو وحدة القياس المُكوّنة من 1000 طن من مادة (TNT).
على سبيل المثال كانت القنبلة الذرية التي أُلقيت على مدينة هيروشيما من عيار 20 كيلوطن، أي ما يعادل 20 ألف طن من المادة الآنفة الذكر الشديدة الإنفجار.
وإجمالا تُصنّف الأسلحة النووية عادة من حيث قوّتها إلى صغيرة إذا كانت عياراتها تتراوح بين الكيلوطن الواحد والخمسة عشر كيلوطن، وإلى متوسطة إذا كانت من خمسة عشرة إلى مائة كيلوطن، وإلى كبيرة إذا كانت تفوق ذلك. هذا ولا يقتصر تأثير السلاح النووي على موجة الصدمة الناجمة عن قوة الإنفجار، وإنما أيضا على تأثير الإشعاع الحراري والإشعاع النافذ. أما وسائل إطلاق هذه الأسلحة فتعتمد على استخدام الطيران الحربي الذي تصل مداياته حتى 17 ألف كيلومتر، وعلى الصواريخ البالستية سواء كانت تكتيكية أوعملياتية أوإستراتيجية والتي تتراوح مداياتها بين 800 متر و16 ألف كيلومتر، هذا علاوة على قذائف المدفعية النووية التي لا يتجاوز مداها 40 كيلومتر وإلى الألغام النووية. وبالإضافة إلى هذه الوسائط تستخدم الأقمار الإصطناعية والمركبات الفضائية في إيصال الأسلحة النووية إلى الأهداف المُراد قصفها.
ومن المعروف أن السلاح النووي خرج إلى حيّز الوجود في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، واستخدم ضد اليابان في أغسطس 1945، عندما قصف سلاح الجو الأمريكي مدينتي هيروشيما وناجازاكي بقنبلتين ذريتين.
وكانت حينئذ الولايات المتحدة تنفرد في العالم بامتلاك السلاح النووي، غير أن الإتحاد السوفييتي سرعان ما اقتفى الأثر وصنع هو الآخر سلاحا نوويا في أواخر الأربعينيات. وبذلك كانت آلة الحرب قد أخذت منعطفا جديدا ودخلت إلى الحقبة النووية. هذا الواقع أفضى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام القوّتين العظميين وأمام دول كبرى أخرى للدخول في نفق سباق التسلّح وفي التنافس على تبوّأ مجال الصدارة في برامج التطوير النووي، حتى وصل الأمر إلى الحد الذي جعل تلك الدول تحتاز من هذه الأسلحة ما هو كاف لتدمير كل شيء في هذا العالم. فيما لم تعجز هذه الدول الحائزة عن تسويق الذرائع لتبرير امتلاك المزيد تحت شعار الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. وهكذا كانت مرحلة الحرب الباردة محفلا للسباق النووي بين حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو.
وكان العالم قد شهد بعد الحرب العالمية الثانية تحوّلات جوهرية غيّرت الكثير من المفاهيم السائدة، كان من آثارها ظهور العديد من الإستراتيجيات، ومنها استراتيجية الردع النووي.
وترتكز استراتيجية هذا النوع من الردع على نظرية مفادها أن منع الخصم من استخدام أسلحته النووية يعتمد على مدى قدرة الطرف الآخر على تنفيذ هجوم نووي مدمّر يردع الخصم عن البدء باستخدام تلك الأسلحة.
ومن المفترض حينئذ أن تتوفر لدى منفّذ هذه الإستراتتيجية قوة نووية مشفوعة بالقدرة على الإستهداف مع الدقّة. وعلى هذا الأساس فإن هذه الإستراتيجية تقوم بالدرجة الأولى على المناورة أوالتلويح بالتهديد بالسلاح النووي، في حين أن النزاع المفترض في هذا السياق مهما كانت نتيجته فإن الغالب والمغلوب سيدفعان في خضمّه الثمن الباهظ جرّاء التدميرات النووية، لأن أيّا من الطرفين لن يستطيع حماية نفسه منها بصورة فعالة، وذلك على خلفية الخصائص التدميرية الفائقة التأثير التي يتميز بها السلاح النووي. قناعة تقوم على معادلة يتم بمقتضاها حساب المخاطر المتوقعة قياسا إلى المغانم المتوخّاة، مع الأخذ في الإعتبار العوامل المجهولة التي تحيط بالنزاع وما يترتب عليها من عواقب غير محمودة في جميع الأحوال. ومن خلال استنتاج واضح يتبيّن أن استراتيجية الطرفين المعنيين طيلة الحرب الباردة تستند في حساباتها إلى مفاهيم ذات قواسم مشتركة ألا وهي المخاطرة والرّهان وإلى تحليل العلاقة بينهما. خلال الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية كان مبدأ الردع أحد دعائم السياسة الخارجية لأمريكا وحلفائها، وبحسب التصريحات المروّجة آنذاك أن القوات المسلحة الأمريكية لن تُؤمر ببدء الحرب وإنما ستكون متأهّبة لردع أي إقدام لعدو محتمل على اتخاذ خطوات عدائية. وعلى هذا الأساس كان لمسألة الردع النووي حضور لامع في المسارات المرتبطة بموازين القوى في العالم. وقد اكتنف هذه الإستراتيجية، منذ ظهورها بعد الحرب العالمية الثانية إلى يومنا هذا، العديد من التغييرات المفصلية التي واكبت التحوّلات السياسية والعلاقات الدولية ناهيك عن التطوّر التقني الذي لازم برامج الأسلحة النووية والأنظمة الصاروخية. ولقد كان من الطبيعي أن تلقي هذه التطوّرات بظلالها على الإستراتيجيات المتعلقة بالردع النووي. مع بداية الخمسينيّات من القرن الماضي كان لقيام الإتحاد السوفييتي بامتلاك القنبلة الذرية والقنبلة الهيدوجينية من التأثير ما أدّى إلى كسر حاجز الإحتكار التي كانت تستأثر به الولايات الأمريكية في المسألة النووية. هذا التطوّر دفع بالإدارة الأمريكية إلى مراجعة مفاهيم وأسس استراتيجيتها، فاعتمدت تبعا لذلك استراتيجية الرد الشامل، وهي تعني القضاء على الخصم السوفييتي عند اللزوم وشلّه وفرض الإستسلام عليه. وعلى خلفية إطلاق السوفييت سنة 1957 بنجاح صاروخا باليستيا يحمل قمرا اصطناعيا يُدعى سبوتنيك إلى مدار حول الأرض، ما لبثت استراتيجية الرد الشامل أن مُنيت بالفشل في مهدها، وذلك بالنظر إلى ما آل إليه الأمر من قدرة جديدة أصبحت لدى السوفييت تتيح لهم تسخير ذلك النوع من القوة الصاروخية لإيصال رؤوس نووية إلى أي مكان في الأرض. وتعاملا مع الوضع الراهن لجأ الأمريكان إلى اعتماد ما أطلقوا عليه استراتيجية الرد المرن، وتهدف الإدارة الأمريكية وقيادة الحلف الأطلسي من وراء ذلك إلى إرساء موقف لا ينبغي أن يتطوّر معه النزاع من محدود إلى شامل أي أن الرد على أي هجوم معادٍ قد يكون على هيئة دفاع نووي تكتيكي أو استخدام نووي محدود. وفي ذات الأثناء ظهرت استراتيجية الرد المتدرّج وهي عبارة عن عمل يشمل الرد المرن وجوانب من الرد الشامل وتقضي هذه الإستراتيجية باللجوء إلى التصعيد التدريجي في استخدام السلاح النووي، مع التوسّع في مناطق العمليات. وقد تم تبنّي هذه الإستراتيجية من قبل الإدارة الأمريكية مع بداية السبعينيات من القرن الماضي على الرغم من التفوّق الصاروخي السوفييتي. وفي تلك الأثناء برز إلى الوجود ما عُرف بالرعب النووي.
وعلى هذه الوتيرة تشهد استرايجيات الردع الكثير من التحوّلات وفق مقتضيات المرحلة بمنظور الدول العظمى. وإذا افترضنا جدلا أن استراتيجية الردع كان لها ما يبررّها إبّان الحرب الباردة بسبب المنافسة بين المعسكرين الرأسمالي والإشتراكي على بسط النفوذ في العالم، فما هو المبرّر الذي تتخذه الآن الدول النووية التي تصر على الإحتفاظ بترساناتها. ولقد بات من الواضح بأن الحرب الباردة لم تُسدل الستار عن سباق التسلح إذ لازالت برامج التطوير النووي قائمة إلى يومنا هذا، وإلى عهد قريب لازالت كل من أمريكا وروسيا تمتلكان آلاف الرؤوس النووية، في حين تم التوصل إلى اتفاق بينهما بتقليص عددها بنسبة 30 في المائة لكل منهما. ومن جهة أخرى ما برحت استراتيجية الردع سارية المفعول وقد أخذت مسميات جديدة، مثل الضربة الإستباقية والوقائية التي كثيرا ما تتردّد في مجريات الممارسات الأمريكية وهي تهدف إلى إحباط قدرات وحتى نوايا الأطراف المُصنّفة في جدول الأعداء المحتملين، سواء كانت هذه الأطراف عبارة عن دول مارقة بحسب التصنيف الأمريكي مثل كوريا الشمالية وإيران أو عبارة عن منظمات أو جماعات أو أفراد. وهذه الإعتبارات كثيرا ما تؤخذ كذريعة من الذرائع للإبقاء على وتيرة متصاعدة من برامج التسلّح. والجدير بالذكر في هذا المقام فإن السلاح النووي لم تظل حيازته مقتصرة على الدولتين العظميين فحسب، فقد انضمت كل من بريطانيا وفرنسا والصين إلى النادي النووي الذي بات حتى مستهل الستينيات من القرن الماضي حكرا على الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وقد أعطت هذه الميزة زخما إضافيا لهذه الدول علاوة على ما تتمتع به من حقّ في النقض أمام المجلس، ما جعلها صاحبة الثقل في صياغة السياسات الدولية.
وهكذا فعلى مر العقود السابقة التي تلت الحرب العالمية الثانية، شهد العالم العديد من الإستراتيجيات التي واكبت التطورات الناشئة، بما فيها من تحولات على صعيد العلاقات الدولية. وحيث كانت تلك الإستراتيجيات بحسب متبنّيها تستهدف الحفاظ على التوازن الدولي وتعمل على ترسيخ السلم الأمن العالميين، غير أن واقع الحال في منطقة الشرق الأوسط ليُثبت بالقدر المتيقّن انعدام أي آلية دولية فعّالة ومّجدية تتضمن التفاتة جادة لقضية فلسطين بحيث يتم إحلال سلام حقيقي مضمون وعادل في منطقة الشرق الأوسط. بل على العكس من ذلك فإن مظاهر التكريس للأمر المفروض من قبل الكيان الصهيوني هي السمة الواضحة للعيان، الشيء الذي أطلق العنان لهذا الكيان المغتصب لكي يتمادى في تهديداته للمنطقة وهو لم يعجز عن اختلاق الذرائع لتبرير ممارساته العدائية ضد الفلسطينيين، ولا يتوقف عن أعمال البطش والتنكيل وعن مصادرة الأراضي والإستيطان دون رادع، كل ذلك يجري على مسمع ومرأى من دول العالم. فالكيان الإسرائيلي معروف بعدم امتثاله للشريعة الدولية، وهو الوحيد الذي يمتلك السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط، ويرفض الإنخراط في المعاهدات الدولية المتعلقة بنزع السلاح، كما يرفض قطعيا إخضاع منشآته النووية للرقابة الدولية، وكأنه معفيّ دون غيره بصفة استثنائية وغير معلنة من الإلتزام بأحكام القانون الدولي.. وما كان لهذا الوضع أن يبلغ المستوى الذي وصل إليه وما كان له أن يكرّس الحالة القائمة من اختلال التوازن لو لا الدعم الإستراتيجي والمادي والمعنوي الذي يحظى به الإسرائيليون من قبل حلفائهم التقليديين.
وما من شك في أن هكذا وضع سيكون له من التداعيات ما لا يُحمد عقباه على مستوى السلم والأمن في إقليم الشرق الأوسط وعلى صعيد الإستقرار في العالم.. فهل من إستراتيجية دولية بنّاءة تلوح في الأفق تتناول التعامل مع الأسباب بدل التعامل مع النتائج، وتبشّر بلجم الظالم ووضع حد للعدوان؟ فعسى أن يغدو العالم بذلك في وضع أفضل مما هو عليه الآن.

تقييم المستخدم: 3 / 5

Star ActiveStar ActiveStar ActiveStar InactiveStar Inactive