لقد اخترع (ماركوني) أول جهاز برق لاسلكي قبل بضع سنوات من اندلاع الحرب الروسية اليابانية في شهر فبراير عام1904م نتيجة الصراع علي مصالح بين هاتين الدولتين، ولهذا كانت هذه الحرب أول الحروب التي استخدام فيها الجانبان الراديو أو البرق اللاسلكي وخاصة من قبل القوات البحرية وذلك لتأمين الاتصال البعيد المدى بين السفن وكذلك بين السفن واليابسة.

قام اليابانيون بتركيب محطات اللاسلكي على سفنهم وكانت هذه المحطات عبارة عن نسخة مقلدة عن جهاز (ماركوني) الأساسي.
لقد كان أداء هذه الآلة سيئا حيث كانت تعمل علي تردد واحد فقط وكان مداها لا يتجاوز60 ميلا وبصعوبة.وفي الجانب الأخر كان لدى الروس أيضا محطات لاسلكية محمولة علي السفن الحربية في منطقة الشرق الأقصى ومحطات أرضية منصوبة قرب القواعد البحرية بإعداد كبيرة، واستخدموا الراديو مند بداية الحرب ليس فقط للاتصالات العادية ولكن لأغراض أخرى وبشكل ارتجالي ومبادرات فرديه، وعليه اعتبرت هذه الاستخدامات للراديو هي رحلة البداية (المخاض) للحرب الالكترونية.
والمثال على ذلك:

  1. عندما بدأت اليابان الحرب بهجوم مفاجئ علي السفن الحربية الروسية في الموانئ على الساحل الغربي لشبه الجزيرة الكورية في البحر الأصفر، عندها لاحظ عمال الراديو في القواعد الروسية من خلال الهجوم الياباني المتتابع دوريا علي السفن الروسية أنه قبل الهجوم يحدث تغيير كبير في شدة الإشارات بين السفن اليابانية وكان هذا محتملا لان اليابانيين كانوا يستخدمون الراديو دون أية احتياطات أخرى لحجب أو إخفاء الإرساليات، ولهذا كانت هذه الإشارات تُستقبل من قبل السفن الروسية قبل رؤية السفن اليابانية المعادية بوقت قليل، لذلك فقد عمد الروس إلى اتخاذ الحذر بشكل مسبق وسرية تامة لعلمهم بأن الهجوم سيكون وشيك الحدوث، وبذلك تم إنذار سفنهم وبطارياتهم الساحلية قبل بدء اليابانيون بالقصف.
  2. في إحدى الحالات الخاصة غادرت أحد الموانئ الروسية عدة سفن للقيام بهجوم مفاجئ على قاعدة بحرية يابانية في بحر اليابان، لكن سرعان ما اكتشف اليابانيون مغادرة هذه السفن وكانوا بانتظارها، وعندما بدأت السفن الروسية بالاقتراب من القاعدة اليابانية استقبلت إشارات الراديو من السفن اليابانية وكانت إشارات السفن اليابانية تزداد مما أكد للروسي وجود عدد كبير من السفن اليابانية الحربية تتجه نحو القاعدة اليابانية، وبذلك تخلى الروس عن خططهم بالهجوم الذي كان سينتهي ارثة حيث سيكون كامل الأسطول الياباني بانتظارهم في القاعدة اليابانية.
  3. عندما حاول اليابانيون شن هجوم علي السفن الروسية الراسية علي الأرصفة الداخلية في إحدى الموانئ والتي لم تكن مشاهدة من جهة البحر المفتوح قاموا بإرسال طرادين لقصف الأرصفة بنيران عشوائية تدعمهم مدمرة صغيرة قرب الساحل لتراقب سقوط القذائف ومن ثم تقوم بإرسال التعليمات لتصحيح رماية الطرادين بالراديو، إلا أن عمال اللاسلكي في القاعدة الروسية التقطوا تبادل الإشارات بين السفن اليابانية ورغم عدم فهمهم لمضمون الرسائل فقد قاموا عن طريق الصدفة بالضغط علي مفتاح إرسال الإشارات للأجهزة على أمل أن يؤدي ذلك إلى إحداث التداخل في الإشارات اليابانية المستقبلة، ونجحت هذه العملية والتي لم تكن في الحسبان وبذلك استطاع الجانب الروسي التشويش علي الاتصالات الخاصة بتصحيح الرميات البحرية اليابانية ولم تصب السفن الروسية مما دعا اليابانيين إلي إيقاف الرماية والانسحاب الفوري.

لقد كان الأمل يحذو روسيا عندما أبحرت 59 سفينـة من أسطول البلطيق متجهة إلي ميناء فلاديفوستوك على الساحل الشرقي لسيبريا وكانت إحداها قد جهزت قبل المغادرة بصفة خاصة بجهاز راديو ألماني الصنع قوي حيث يبلغ مداه 7000ميلاً وكان شيئا فريد في تلك الأيام، وقد تصور البحارة الروس أنه بإمكانهم الاتصال مع السفن الحربية الروسية الموجودة في ميناء فلاديفوستوك لاستدعائها عند الحاجة ووضع الأسطول اليابان ضمن تقاطع النيران للوحدات الروسية، وتفاديا لكشف وتحديد مكان الأسطول حتى وصول ميناء فلاديفوستوك أصدرت الأوامر المشددة بالصمت اللاسلكي بالكامل.. وفي إحدى الأيام بينما كان الأسطول الروسي يبحر علي خطين طويلين وكان البحر هائجـا والرؤية ضعيفة جدا قرب المضايق الكورية وعند الصباح الباكر بدأت وحدات سطول الروسي تستقبل إشارات لاسلكية ضعيفة، وكانت شدة الإشارات تزداد كلما أبحروا شمالا، وكان واضحا إن هذه الاتصالات بين سفن دوريات الاستطلاع اليابانية ومركز قيادة الأسطول، وتجاهل الأميرال الروسي ما يحدث تماما، ولم يكلف نفسه عناء إرسال احد زوارق الطوربيد للقيام بدورية استطلاع ولكنه استمر في الإبحار حسب المسار المقرر..
وفي الليلة الثانية كان الضباب كثيفا والقمر في ربعه الأخير وكانت الرؤية سيئة لا تتعدى ميلا واحدا ولم يشاهد أي شيء وفي الوقت نفسه كان هناك طراد ياباني مبحرا على مسافة40 ميلا حيث شاهد فجأة ومن خلال الضباب سفينة تبحر وهي تضئ أنوارها الملاحية ولم يستطع الطراد الياباني تمييز نوع السفينة أو هويتها وهل هي وحيدة أو ضمن تشكيل، وبدأ الطراد بمتابعة السفينة دون إرسال أي رسالة باللاسلكي باستثناء المراقبة.. وفي الصباح الباكر تحرك الطراد الياباني مقتربا أكثر من السفينة المجهولة حيث تبين له أنها عبارة عن مستشفى روسي عائم، وفي تلك اللحظة شاهد الروس الطراد الياباني وظنوا خطأ أنــه صديق ولذلك قاموا بإضاءة أنوارهم له..
ونتيجة لهذا الخطأ الذي ارتكبته السفينة الروسية استنتج قائد الطراد الياباني أن هذه السفينـة لابد أن تكون ضمن تشكيل وتحرك مقتربا لاستطلاع الصورة كاملة... وعندما انقشع الضباب استطاع الطراد الياباني مشاهدة السفن الحربية الروسية والطـرادات على مسافة نصف ميل من السفينة المستشفى، وهنا بدأ الطراد الياباني بإرسال المعلومات إلى البارجـة اليابانية ولكن نظرا لبعد المسافة بين نقطتي الاتصال وبسبب الظروف الجوية السيئة لم تتمكــن أجهزة الاتصال البدائية من إيصال هذه الرسائل بدقة، وفي الوقت نفسه شاهدات السفن الروسيـة الطراد الياباني الذي كان مبحرا بمسار مواز للتشكيل الروسي متخفيـا في بعض الحـالات تحت ستار ضباب الفجر مما منع السفن الروسية من تمييز هوية الطراد إلا إن تحركاته أكدت لهم بأنه سفينة دوريه معادية.. لقد كانت هذه اللحظات عصيبة وحرجة بالنسبة للأسطول الروسي وكان الجميع يتوقع أن يقوم الأميرال الروسي بإرسال أسرع وأقوى الطرادات لتدمير هذه السفينة المعادية الطائشة، إلا أنه أمر بتوجيه فوهات المدافع نحو الطراد الياباني ولكن لم يعط أمر بإطلاق النار وبالرغم من أنه على ظهر إحدى السفن يوجد جهاز إرسال لاسلكي قوي ذو استطاعة عاليـة مما جعـل قبطانـها يتساءل لماذا لم يتخذ أي إجراء ضد الطراد الياباني الذي بدأ وكأنه يتحدى الأسطول الروسـي بكاملة مما جعله يستشير عامل الراديو عن إمكانية التشويش على إرسال الطراد اليابانـي حيـث يقوم بإرسال إشارات مستمرة من جهاز الإرسال الروسي القوي علي التردد نفسه المستخدم من قبل الطراد الياباني وذلك سيكون كافيا للتشويش على الرسائل المرسلة من قبل الطراد الياباني ومنعه من الإبلاغ عن رؤية الأسطول الروس..
وبعد اتصال قبطان السفينة بأميرال الأسطول الروسي طالبا منه الإذن باستخدام الراديو بهدف التشويش جاءه الرد خلال دقائق مجيبا (لا تمنعوا الإرسال الياباني)، وأخيرا استطاع الطـراد الياباني تأمين الاتصال مع قيادته وتم الإبلاغ عن رؤية العدو واستمر في إرسال المعلومات عن الاتجاه والموقع والسرعة للتشكيل الروسي المعادي والتي كانت جميعها تشير إلى إن الأسطول الروسي يتجه نحو المضايق الكورية، وقبل حلول الفجر غطت البحر طبقة كثيفة من الضباب مما أعطى ذلك فرصة للأسطول الروس للتسلل بعيدا عن الطراد الياباني. وعندما فشلت جميع المحاولات بإقناع الأميرال الروسي بإعادة النظر بالوضــــع بعــد أن أصبح واضحا أن الاتصال قد تم تأمينه بين الطراد الياباني وقيادته، قام الضباط القادة في الأسطول الروسي بإعطاء الأوامر لعمال اللاسلكـي بمحاولة إبطال وتعطيل الاتصالات بين السفن المعادية ولكن هذه الإجراءات جاءت متأخرة أي بعد فوات الأوان وعند انقشاع الضباب لم يكن الموقف قد تغير فالأسطول الروسي مازال محاطا بمجموعة سفن الدورية المعادية، واستمر الأسطول الروسي في مسيره باتجاه مضايق كوريا متجاهلا كل شيء متجها نحو قدره الذي لا مفر منه.
كان الأسطول الياباني في البحر ينتظر بقلق أخبار الأسطول الروسي وأثلج صدره إجراء الاتصال اللاسلكي مع طراد الدورية، وحال وصول المعلومات أمر أميرال الأسطول الياباني برفع الحراسة والإبحار باتجاه العدو.
وبينما كان الأسطول الروسي يتقدم للدخول في عمق المضايق الكورية ظهر الأسطول الياباني فجأة في الأفق فأعطى الأميرال الروسي الأوامر بإطلاق النار، والمناورة جريئة وذكية مستخدما الصمت اللاسلكي، أصبحت السفن اليابانـية جاهزة لإطلاق النار, وجـه الأميرال الياباني صلية من نيران مدفعيته، حيث سقطت القذائف على القيادة الروسية التي كانت ركيزة الأسطول الروسي والذي عانى كثيرا من الضربات المتكررة، ونتيجة للقــرارات السريعة والجريئة والذكية التي نفذها الأميرال الياباني فقد أجبر السفن الروسية في الوقوع تحـت تقاطع النيران اليابانية المميتة، وبعناد وصلابة تم أسر السفن الروسية الواحدة تلو الأخرى، واستطاعت فقط ثلاث سفن روسية النجاة إلى ميناء فلاديفوستوك بينما رفعت بقية السفن الروسية الأعلام البيضاء معلنة الاستسلام.
وعليه فمن الصعوبة بمكان التأكد بأن المعالجات المختلفة للعمليات قد تعطى نتائجًا أفضل للمهمة الصعبة، إذ لو تم التشويش على رسالة الطراد الياباني إلى قيادته وحرمانه من معرفة الأسطول الروسي فإن السبق والمبادأة من الأسطول الياباني قد أمنا النصر على كل حال.

الخلاصة ...

يمكن القول إنه لو استخدام الروس المعاكسة الالكترونية البدائية في الوقت والمكان المناسبين لكانت هناك فرصة كبيرة لتقليل الخسائر في السفن والأرواح من البحارة الروس وخاصة أن جهاز الإرسال القوى المركب على ظهر إحدى السفن الروسية كان يمكن استخدامه للتشويش على رسائل الطراد الياباني إلى قيادته وكان سيؤدي إلى منع الإرسال أو على الأقل إبطاء عملية الاتصال المعادية مع الأميرال الياباني والتي أدت إلى كشف الأسطول الروسي ومشاهدته ومن ثم محاصرته والقضاء عليه.

تقييم المستخدم: 2 / 5

Star ActiveStar ActiveStar InactiveStar InactiveStar Inactive