خلافاً للتفسير التقليدي للأمن، والذي يرمي بكل ثقله للاعتماد على القدرات العسكرية، ويعول عليها كمحرك رئيس لممارسة القوة والنفوذ، نجد بأن القراءات المعاصرة لمصطلح الأمن أصبحت تتفحصه من خلال جوانبه المتنوعة والمختلفة.

وفقا للرؤية الجديدة، فإن السياسات الأمنية لا تقتصر على الوسائل التقليدية المتمثلة في الجانب العسكري لدرء مخاطر الأزمات والحروب وانتشارها، بل تراهن، وبدرجة عالية جداً، على التوجهات غير القسرية، والخالية من الإكراه. من هذا لمنطلق، ونتيجة للمتغيرات الظرفية الناجمة عن فترة ما بعد الحرب الباردة، بادر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في عام 1994 بطرح رؤية جديدة ومفصلة ومتعددة الأبعاد لمفهوم الأمن.

لقد شملت هذه النظرة على البعد الاقتصادي والغذائي والبيئي والشخصي والمجتمعي والسياسي، إضافة إلى الجانب الإنساني أيضاً. لذا يجب أن لا يستمر النظر إلى مصطلح الأمن على أنه محظور أو محرم من التأويل (أي taboo) كما يحلو للبعض، ولمصالح ذاتية غرضيه، التعامل معه في كثير من الأحيان. لقد أصبح هذا المصطلح عرضة لتفسيرات مختلفة، وذلك بسبب التزايد المطرد في أهميته وحساسيته.
إحدى هذه الرؤى تستند وبكثافة على حقوق الإنسان وحاجياته الأساسية كشرط مسبق وحاسم للتوصل إلى عالم أكثر أماناً واستقرارا. إن المجتمع الدولي، ومن خلال أعلى مستوياته المؤسسية (الأمم المتحدة تحديداً) تنبه أخيراً إلى أهمية النظر إلى مسألة الأمن الدولي من زاوية مغايرة. مبعث ذلك كان في مجمله نابعاً من تعاظم التهديدات التي بدأت تلحق بالأمن الدولي برمته.
عقب إعلان تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المشار إليه أعلاه، قامت عدد من الدول المهتمة بهذا الشأن بإعادة النظر في رؤيتها للموضوع، ولعل من أبرز النماذج على ذلك ما قامت به كل من دولتي كندا واليابان. فعلى سبيل المثال، أعلنت الحكومة الكندية سنة 1996 تبني توجه الأمن الإنساني كما قام عدد كبير من الباحثين والسياسيين الكنديين بتطوير هذا التوجه المرتكز على أهمية أمن الإنسان كشرط أساسي لتعزيز أمن الدولة (بكافة عناصرها ومكوناتها المتعارف عليها في قواميس العلوم السياسية المعاصرة).
إن المؤشرات والمعطيات الرقمية المخيفة والمستمدة من مصادر موثوقة وتتميز بقدر كبير من الشفافية والدقة، تبين مدى الضرر والأذى الذي لحق ويلحق بالإنسان من جراء النزاعات والحروب والمجاعة والفقر والأمية وانتهاكات حقوق الإنسان والفساد ونهب للثروات والأمراض والكوارث (الطبيعية وغيرها) وغياب الديمقراطية والتبعية، وبقية العوامل التي تعيق التنمية المرجؤة.
هذه، وفي تقديرنا، تعتبر جوهر ومصدر المشكلات التي تدعو الحاجة إلى التعامل معها عند التفكير في وضع آية ترتيبات أمنية، وبدون ذلك يبدو أن مآلها الإحباط أو الفشل. ففي واقع الأمر، لا يوجد خلاف حول حقيقة أن المنازعات والحروب تقف حجر عثرة أمام التنمية، لان البشر، وبشكل عام، يشكلون كبش الفداء في مثل هذه الحالات الكارثية. ومن الملفت للنظر أن المؤشرات تؤكد على أن 80% من ضحايا الحروب خلال العقد المنصرم هم أناس مدنيون على الرغم من أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي كان سباقاً في طرح أهمية أمن الإنسان، إلا أن الإدراك بان هذا البعد الأمني، كشرط مسبق لأمن الدولة (بكافة مكوناتها وعناصرها)، يرجع إلى حقبة الحرب الباردة.

تقييم المستخدم: 3 / 5

Star ActiveStar ActiveStar ActiveStar InactiveStar Inactive